سنة صلاة الجمعة البعدية
من المسائل التي دار الخلاف حولها، وتعددت أقوال العلماء فيها: ما يعرف بـ: (سنَّة الجمعة البَعْدية)، وسبب الخلاف حولها ليس انعدام الأدلة، بل وجود ما قد يظهر منه التعارض،ولعلي هنا أستعرض النصوص المتعلقة بها، ثم أستعرض ما ورد فيها من أقوال.
الحديث الأول: عن عبدالله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين)، وفي رواية: (صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء والجمعة ففي بيته)، وفي رواية عند مسلم: (فكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته)؛رواه البخاري (937 – 1165 – 1172 – 1180) ومسلم (729 – 882)، ومن طريق نافع أن ابن عمر رأى رجلًا يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه، وقال: أتصلي الجمعة أربعًا؟ وكان عبدالله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته، ويقول: (هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ رواه أبو داود رقم: (1127).
الحديث الثاني: عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعًا))،زاد عمرو في روايته: قال ابن إدريس: قال سهيل: ((فإن عجل بك شيء، فصلِّ ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت))؛ مسلم (881)، وفي سنن أبي داود (1131) فقال لي أبي: (يا بني، فإن صليتَ في المسجد ركعتين، ثم أتيت المنزل – أو البيت – فصلِّ ركعتين)، وعند البيهقي في السنن الكبرى (3/ 340) قال أحمد بن سلمة [أحد الرواة]: الكلام الآخر في الحديث من قول سهيل.
الحديث الثالث: عن عطاء عن ابن عمر قال: كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم، فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلى ركعتين، ولم يصلِّ في المسجد، فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛رواه أبو داود رقم (1130).
هذه الأحاديث الثلاثة مدارُ ما وقع الخلاف عليه حول هذه السنة، وهناك أحاديث ضعيفة لا يشتغل بها، أشار ابن حجر إلى ضعفها في الفتح 2/ 426.
وإليك الأقوال بعد محاولة سبرها وتقسيمها مع أدلتها وحُجَجها:
الأول: أنها ركعتان،وهذا ظاهر فعل ابن عمر وعمران بن حصين رضي الله عنهما، وقول النخَعي والحسن، ورواية عن أحمد، وقد نسبه الترمذي إلى الشافعي،لكن قال العراقي: لم يُرِد الشافعيُّ وأحمد بذلك إلا بيانَ أقلِّ ما يستحب، وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك، فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا.
وحجة هذا القول ظاهرة، من خلال حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم، وهو مشعِر باعتناء ابن عمرَ بنوافل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه هي سنَّته[1].
الثاني: أنها أربع ركعات،وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وقول الحنفية والشافعية، واختاره ابن حزم وابن قدامة.
واختلف هل يفصل بينها بسلام أم لا؟ قال الإمام أحمد: أنا أختار أن يسلم، وإن لم يسلم لم يضرَّه.
وحجة هذا القول هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، وهو موجه لأمته دون فعله؛ فهو حكاية حال لا تفيد العموم والشمول بخلاف قوله، قال الشوكاني: الركعتان خاصة به عليه الصلاة والسلام[2].
الثالث: أنها ستُّ ركعات،وقد نسبه الترمذي إلى علي رضي الله عنه، ركعتان ثم أربع، وكذا منسوب إلى أبي موسى وابن عمر ومجاهد وعطاء، وهو قول لأبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقول أبي يوسف، إلا أنه يرى تقديم الأربع على الركعتين؛كيلا يصير متطوعًا بعد صلاة الفرض بمثلها.
وحجة هذا القول ما ورد عن بعض الصحابة كما تقدم، وكذلك الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله[3].
الرابع: أنها أربع في المسجد، أو ركعتانِ في البيت، وهو قول إسحاق بن راهويه، واختاره الإمام ابن تيميَّة.
حجة هذا القول،قال ابن القيم: قلت: وعلى هذا تدلُّ الأحاديث، وقد ذكر أبو داود، عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين[4].
وقال الطحاوي: عاد تصحيح معاني هذه الآثار إلى إطلاق التطوع بعد الجمعة في المسجد الذي يصلي فيه بما لا يشبه الجمعة في عددها، والمنع من أن يصلي في المسجد بعدها مثلها، وأمر أن يكون ذلك منه بعد الانصراف عنه فيما سواه من المنازل، أو مما سواها،ثم روى بسنده عن عمر: أنه كان يكره أن يصلي بعد صلاة مثلها،وقال: وهذه سُنَن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على مَن وقَف عليها وعقَلها حَمْدُ الله على ما آتاه من ذلك،ومن باب دفع التعارض بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، لما ورد أنه يصلي ركعتين في بيته، جعلنا الأربع في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا الكمال،وكأنهم جمعوا بذلك بين الحديثين؛ فإن حديث الأربع مطلَق، وليس مقيدًا بكونها في البيت،وأما حديث الركعتين فهو مقيد بكونهما في البيت، فحملوا حديث الركعتين على ما إذا صلى في البيت، وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد؛انظر: شرح مشكل الآثار10/ 303 – 307.
قال العراقي رادًّا على هذا القول: إنما أراد رفع فعله [ابن عمر] بالمدينة فحسب؛ لأنه لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمكة،وقال: قد يسأل عن الحكمة في كون ابن عمر كان يصليها بمكة في المسجد وفي المدينة بمنزله، وقد يجاب بأنه لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة زمنٌ مما يغتنمه في الطواف، أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة، فكان يتنفل في المسجد لذلك، أو كان له أمر يتعلق به في المسجد من الاجتماع بأحد أو غير ذلك، مما يقتضي أولوية صلاته في المسجد؛ انظر: طرح التثريب في شرح التقريب 3/ 39.
وقد ناقش الشيخ الألباني هذا القول ودليله قائلًا: “هذا التفصيل لا أعرف له أصلًا في السنَّة”.
ثم بين أن ابن القيم رحمه الله اختصر رواية أبي داود اختصارًا تغيَّر به المعنى، وبيَّن أن لفظ الحديث: عن عطاء عن ابن عمر قال: كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصلِّ في المسجد،فقيل له؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
ثم قال الشيخ الألباني: “فأنت ترى أن رواية أبي داود تختلف عما عزاه إليه ابن القيم من وجهين: الأول: أن فيها أنه كان يصلي ست ركعات، وهو يقول: أربعًا، الثاني: فيها أن ذلك كان في مكة وهو يعني المسجد الحرام، وابن القيم قال: “المسجد”؛ أي: المسجد النبوي، بدليل ما بعده: “وإذا صلى في بيته”، يعني في المدينة؛ لأن ابن عمر مدني، كما هو معلوم”.
ثم بيَّن أن رواية أبي داود هذه لا تدل على التفصيل الذي ذكره الإمام ابن تيمية وأيده ابن القيم مستدلًّا بالحديث، واستدل الشيخ الألباني على أن رواية أبي داود لا تدل على هذا التفصيل بأمور، الأول: أن الدعوى أنه يصلي ستًّا، الثاني: أنه خاص بالمسجد الحرام، والدعوة عامة، الثالث: أنه موقوف؛ فليس بحجَّة، ومن المحتمل أنه فعل ذلك لأمر يتعلق به، أو لغير ذلك من الأسباب؛ (انظر: تمام المنة ص 340 – 343).
الخامس: أنها أربع أو ركعتانِ على التخيير،وهذا قول الإمام أحمد في رواية عنه، قال ابن رجب: وظاهره: أنه لا فضل لأحدهما على الآخر،ورُوي عنه أنه قال: يصلي ركعتين، ولا يَعيب على من صلى أربعًا؛ لحديث أبي هريرة، وظاهره: أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر؛ لأنه أثبت إسنادًا،وهو قول ابن المنذر وابن باز وابن عثيمين، وقال: ينوع بينهما.
وحجة هذا القول: هو العمل بالسنن الواردة جميعًا، بالسنة القولية والفعلية، ككثير من السنن التي ترد على وجوه متعددة، فيعمل بها جميعًا[5].
السادس: أنها ركعتان أو أربع أو ستٌّ،نص عليه أحمد، وهو المذهب عند الحنابلة، فأقلها ركعتان، وأكثرها ستٌّ.
وحجته ما تقدم وما ورد عن بعض الصحابة، وما يُفهم من حديث ابن عمر عند أبي داود رقم (1127)، وقد تقدم، قال الإمام أحمد: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأربع ركعات، وصلى هو ركعتين، فأيهما فعلت فحسن، وإن أردت أن تحتاط صليت ركعتين وأربعًا، جمعت فعله وأمره، قال ابن رجب: وهذا مأخذ غريب لاستحباب الست، وأما الأصحاب فلم يستندوا إلا إلى ما نقل عن بعض الصحابة من صلاته ست ركعات،وقال: ونقل عنه ابن هانئ، قال: يصلي ستًّا؛ لأمر عليِّ بن أبي طالب بذلك،وهذا مأخذ آخر[6].
السابع: أنها ركعتان في المسجد، وركعتان في البيت،وهو قول أبي مجلز،وهذا القول نسبه الإمام مسلم إلى سهيل بن أبي صالح عن أبيه، وعند الإمام أحمد ما يشير إلى أن ذلك مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تبين في أول الكلام أن هذه زيادة من سهيل أو أبيه .
الثامن: إذا كان إمامًا يصلي ركعتين في بيته، وإن كان مأمومًا يصلي أربعًا في المسجد، قال به أبو خيثمة، ويُفهم من كلام النسائي والبيهقي، وقد أجاز ابن عمر، وكذا مالكٌ، الصلاةَ بعد الجمعة في المسجد للناس، ولم يُجزه للأئمة.
وحجة هذا القول هو أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ركعتان في بيته، فيتوجَّه أن تكون أربع ركعات التي من قوله للمأمومين؛ حتى لا يقع تعارضٌ بين قوله وفعله .
قال العراقي: وربما كانت الخصائص في حقه بالتخفيف في بعض الأوقات؛ فإنه عليه الصلاة والسلام (كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم)، الحديث عند مسلم، فربما لحقه تعب من ذلك؛ فاقتصر على الركعتين في بيته؛ انظر: طرح التثريب في شرح التقريب 3/ 40.
قال المعلمي رحمه الله: قد يقال: إن الأربع تتأكد في حق المأمومين، كما يقتضيه الأمر، ولا تتأكد في حق الإمام؛ لأنه قد حصل له مزيد الأجر بنصَبه في الخطبة بخلافهم؛ انظر: بحث حول سنة الجمعة القَبْلية للمعلمي ص 41.
سنة صلاة الجمعة
لم يرد في سنة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ لصلاة الجمعة سنّة قبليّة يصليها المسلم قبل صلاة الجمعة على أنّها راتبة لها، وفي قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من اغتسَلَ يومَ الجمعةِ، وتَطَهَّرَ بما استطاع َمن طهرٍ، ثمَّ ادَّهَنَ أو مسَّ من طيبٍ، ثمَّ راحَ فلمْ يُفَرِّقْ بينَ اثنينِ، فَصَلَّى ما كُتِبَ لَهُ، ثمّ إذا خرجَ الإمامُ أنصتَ، غُفِرَ لهُ ما بينَهُ وبينَ الجمعةِ الأخرَى)،[٣] يُراد بقوله: (فصلّى ما كتب له)؛ مشروعيّة النافلة بشكلٍ عام قبل صلاة الجمعة، فمَن أراد أن يصلّى قبلها ركعتين أو أكثر جاز له ذلك، على أن تكون صلاته بنيّة التنفّل عامةً، لا بنيّة السنة الراتبة لصلاة الجمعة، أمّا السنة الواردة بعد صلاة الجمعة فقد ورد فيها حديثان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الأول منهما: (إذا صلَّى أحدُكم الجمعةَ فليصلِّ بعدها أربعاً)،[٤] والثاني ما رُوي أنّه: (أن لا يُصلِّي بعدَ الجمُعةِ حتى يَنصَرِفَ، فيُصلِّي ركعتَينِ)،[٥] وبناءً على الحديثين السابقين اختلف العلماء في عدد الركعات المسنونة بعد صلاة الجمعة، فقال بعضهم إنّها ركعتين، وقال آخرون أربع ركعات، وقيل أيضاً: ستة ركعات بالجمع بين القولين، وهذه الأقوال جميعها معتبرة، ويجوز للمسلم الأخذ بأيّها شاء، وقال بعض العلماء؛ مثل: ابن تيمية، وابن القيم إنّ الإنسان إن صلّاها في المسجد كانت أربعة ركعات، وإن صلّاها في بيته جعلها ركعتين.
هل لصلاة الجمعة سنة قبلية
م يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لصلاة الجمعة سنة راتبة قبلها ، ولم يثبت عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى للجمعة سنة راتبة قبلها ، كراتبة الظهر أو غيرها من الصلوات .
ولا يصح أن تصلى راتبة الظهر يوم الجمعة ؛ لأن الجمعة ليست ظهرا ؛ بل هي صلاة مستقلة في أحكامها ، وما يتعلق بها ، فليست هي ظهرا ، ولا يصح ـ أيضا ـ قياسها على الظهر في ذلك
وينظر جواب سؤال رقم (114765) .
وأما ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: ( أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا )، فقد رواه الترمذي معلقاً بصيغة التمريض، موقوفاً على ابن مسعود ، ونقل شارح الترمذي : عن الحافظ ابن حجر رحمه الله ، أن عبد الرزاق والطبراني أخرجاه مرفوعاً ، وفي سنده ضعف وانقطاع ، ومثل هذا لا يحتج به .
ينظر : فتاوى “اللجنة الدائمة” (8/261) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله : ” منكر ” ، كما في ” السلسلة الضعيفة ” (3/83).
ثانيا :
يستحب لمن أتى الجمعة أن يتطوع بالصلاة قبلها ، بما تيسر له ، من حين دخوله إلى المسجد ، إلى أن يخرج الإمام على الناس ، من غير أن يكون ذلك مقيدا بعدد مخصوص ، فيصلي ركعتين ، أو أربعا ، أو ما شاء الله له أن يصلي .
روى البخاري (883) ومسلم (857) عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى ) .
قال ابن القيم رحمه الله في جملة ما ذكره من خصائص يوم الجمعة :
” لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال ، عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه ، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية ، ولم يكن اعتماده على حديث ليث عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة ، وقال : إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة ، وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام … ” .
وذكر حديث سلمان السابق ذكره ، ثم قال : ” فندبه إلى الصلاة ما كتب له ، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام .
ولهذا قال غير واحد من السلف : منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل : خروج الإمام يمنع الصلاة ، وخطبته تمنع الكلام ، فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام ، لا انتصاف النهار .
وأيضاً : فإن الناس يكونون في المسجد تحت السقوف ، ولا يشعرون بوقت الزوال ، والرجل يكون متشاغلا بالصلاة ، لا يدري بوقت الزوال ولا يمكنه أن يخرج ويتخطى رقاب الناس وينظر إلى الشمس ويرجع ، ولا يشرع له ذلك ” انتهى من ” زاد المعاد”(1/365) .
ورجح الشوكاني هذا القول أيضا ، وذكر أن أحاديث النهي عن الصلاة وقت الزوال ، مخصصة بحديث سلمان السابق . ينظر “نيل الأوطار” (3/313) .
واختاره أيضا الشيخ عبد الله الفوزان حفظه الله ، واستدل له بنحو مما ورد في كلام ابن القيم .
ينظر ” منح العلام شرح بلوغ المرام” (1/162) .
وينظر أيضا : ” الأجوبة النافعة ” ، للشيخ الألباني رحمه الله (59-70) .
وقد حرر الإمام أبو شامة هذين المسألتين تحريرا حسنا ؛ مسألة أن الجمعة ليس لها سنة راتبة قبلها ، والمسألة الأخرى : مشروعية التطوع قبل صلاة الجمعة ، حتى يخرج الإمام .
قال رحمه الله :
” فصل في بدع الجمعة :
وجرت عادة الناس أنهم يصلون بين الأذانين يوم الجمعة متنفلين بركعتين أو أربع ونحو ذلك ، إلى خروج الإمام وذلك جائز ومباح وليس بمنكر من جهة كونه صلاة ، وإنما المنكر اعتقاد العامة منهم ، ومعظم المتفقهة منهم : أن ذلك سنة للجمعة قبلها كما يصلون السنة قبل الظهر ، ويصرحون في نيتهم بأنها سنة الجمعة ، ويقول من هو عند نفسه ، معتمدا على قوله : إن قلنا : الجمعة ظهر مقصورة ، فلها كالظهر ، وإلا فلا .
وكل ذلك بمعزل عن التحقيق ، والجمعة لا سنة لها قبلها ، كالعشاء والمغرب ، وكذا العصر على قول وهو الصحيح عند بعضهم ، وهي صلاة مستقلة بنفسها …
والدليل على أنه لا سنة لها قبلها : أن المراد من قولنا الصلاة المسنونة أنها منقولة عن رسول الله ، قولا وفعلا ، والصلاة قبل الجمعة لم يأت منها شيء عن النبي يدل على أنه سنة ، ولا يجوز القياس في شرعية الصلوات .
أما بعد الجمعة : فقد نقل في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين [ رواه البخاري (937) ومسلم (882) من حديث ابن عمر ] ، وقال : ( مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا ) [ رواه مسلم (881) . قال أبو عيسى الترمذي : رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَرْبَعًا ، وقال عطاء : قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعًا ” .
فإن قلت : فقد روى الترمذي أيضا قال : وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا ، وإليه ذهب النووي وابن المبارك ؛ فهذا يدل على أن للجمعة سنة قبلها أربع ركعات كالظهر ؟
قلت : المراد من صلاة عبد الله بن مسعود قبل الجمعة أربعا : أنه كان يفعل ذلك تطوعا إلى خروج الإمام ، كما تقدم ذكره ؛ فمن أين لكم أنه كان يعتقد أنها سنة الجمعة ؟
وقد جاء عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم أكثر من ذلك ، قال أبو بكر بن المنذر : روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يصلي ثماني ركعات ؛ وهذا دليل على أن ذلك كان منهم من باب التطوع من قِبَل أنفسهم ، من غير توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك اختلف العدد المروي عنهم ، وباب التطوع مفتوح ؛ ولعل ذلك كان يقع منهم ، أو معظمه ، قبل الأذان ودخول وقت الجمعة ، لأنهم كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام .
وقد فعلوا مثل ذلك في صلاة العيد ، وقد علم قطعا أن صلاة العيد لا سنة لها ، وكانوا يصلون بعد ارتفاع الشمس في المصلى وفي البيوت ، ثم يصلون العيد . روى ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وبوب له الحافظ البيهقي بابا في سننه .
ثم الدليل على صحة ذلك أن النبي كان يخرج من بيته يوم الجمعة فيصعد منبره ، ثم يؤذن المؤذن ، فإذا فرغ أخذ النبي في خطبته ، ولو كان للجمعة سنة قبلها لأمرهم بعد الأذان بصلاة السنة ، وفعلها هو صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الأذان الذي بين يدي الخطيب وعلى ذلك مذهب المالكية إلى الآن .
فإن قلت : لعله صلى الله عليه وسلم ، صلى السنة في بيته بعد زوال الشمس ثم خرج ؟
قلت : لو جرى ذلك لنقله أزواجه رضي الله عنهن ، كما نقلن سائر صلواته في بيته ليلا ونهارا ، وكيفية تهجده وقيامة بالليل ، وحيث لم ينقل شيء من ذلك ، فالأصل عدمه ، ودل على أنه لم يقع ، وأنه غير مشروع … ” انتهى ، وللبحث تتمة في تقرير المسألة ، طول فيها الإمام الحافظ أبو شامة رحمه الله . ينظر : “الباعث على إنكار البدع والحوادث” ص(96) وما بعدها .
والحاصل : أنه لا يشرع للجمعة سنة راتبة قبلها ، وإنما المشروع أن يتطوع المرء بما شاء ، من حين دخوله إلى المسجد ، إلى أن يصعد الإمام المنبر .
كم ركعة صلاة الجمعة
يبلغ عدد ركعات صلاة الجمعة في المسجد ركعتين يجهر فيهما الإمام بالقراءة، حيثُ تتقدّمهما خطبتان معروفتان، والنية في صلاة الجمعة كباقي الصلوات؛ فعلى المسلم أن ينوي بقلبه أن يؤدّي صلاة الجمعة، كما يجب أن تتوفّر فيها الشروط والقواعد الشرعية، أمّا المرأة فعليها أن تُصلي أربع ركعات كصلاة الظهر من باقي الأيام، ولكن في حال ذهابها إلى المسجد فتصلي ركعتين كباقي المصلين.
حكم صلاة الجمعة
لحكم صلاة الجمعة وعلى من تجب تفصيلٌ بين الفقهاء، وهو على النحو الآتي:
- انعقد إجماع العلماء على أنّ صلاة الجمعة فرض عينٍ على كلّ مسلم مكلّف وقادر، ومستوفٍ لشروطها، وهي ليست بديلاً عن صلاة الظهر؛ أمّا إن لم يتحصّل المسلم على إدراكها فتجب عليه صلاة الظهر أربع ركعات، وقد ثبت حكمها في القرآن الكريم والسنة النبوية، فقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)،[٢] وفي الحديث قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لقد هممتُ أن آمرَ بالصلاةِ فتقام، ثم أخالفُ إلى منازلِ قومٍ لا يشهدون الصلاةَ، فأحرِّقُ عليهم)
- قرّر الفقهاء أنّ صلاة الجمعة تجب على كلّ مسلم استوفى شروط الذكورة، وبلغ سنّ التكليف الشرعي المعتبر، وحضور العقل والإدراك، والقدرة على إتيانها، والإقامة؛ وبذلك فهي لا تجب على: امرأةٍ، أو صبيٍ غير مكلّف، أو مجنونٍ، أو مريضٍ، أو مسافر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الجمعةُ حقٌّ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ في جماعةٍ إلا أربعةً: عبدًا مملوكاً، أو امرأةً، أو صبيًّا، أو مريضًا)، وأمّا المسافر فلا يلزمه شهود الجمعة؛ لأنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لم يكن يصليها في أسفاره، خلافاً للمسافر الذي ينزل بأرضٍ تُقام فيها صلاة الجمعة؛ فإنّه يصليها معهم، ويجوز شهودها للمرأة والصبي والمريض والمسافر جوازاً لا وجوباً، وتجزأ من حضرها من أصحاب الأعذار عن صلاة الظهر