السنة النبوية
تُعتبر السنة النبويّة ثاني مصدرٍ من مَصادر التّشريع في الإسلام؛ فهي (كُلّ ما وَرد عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو سيرةٍ، أو صفة خَلقية أو خُلقية)، وقد نُقلت السيرة جيلاً بعد جيل بطرقٍ صَحيحة واضحة، حيث تُعتبر سيرته وسنّته -عليه الصّلاة والسّلام- من أوضح السير بين الأنبياء والرّسل عليهم السّلام؛ فقد جاء فيها الإخبار عن مولده، ونشأته، وصفاته الخَلقية والخُلُقية، وتفاصيل علاقته بأصحابه، وعلاقته اليوميّة مع زوجاته، ومَواقفه مع الآخرين، والحوادث التي حصلت أثناء فترة نبوّته بتفاصيلها، والمَعارك التي خاضها وشارك فيها قبل الإسلام وبعد البعثة، وجميع ما جاء به عن الله من أحكام وأمور شرعيّة، وتطبيقاتها العمليّة في هيئاته وأفعاله وأقواله.
إنّ سيرة وسنّة الرسول -عليه الصّلاة والسّلام- سيرة شاملة كاملة لجميع جوانب حياته، وفيها كل ما يُهمّ هذه الأمة من أحكام وأسس وقواعد؛ فلا يَخفى من حياته وسيرته، ومواقفه ومُعاملاته -عليه الصّلاة والسّلام- وحتى أكله وشربه، ولا طريقة مُعاملته مع أهله وأصحابه، وما يُحبّ وما يكره عليه؛ وذلك ليتسنّى للمسلمين اتّباعه من بعده، والتمسّك بسنّته الطاهرة، فقد قال الله سبحانه في وصف سنة نبيه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) لذا يجب على المسلمين اتّباعه -عليه الصّلاة والسّلام- بكل كبيرةٍ وصغيرة بأمر الله فقد قال الله سبحانه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
وممّا جَاءَ في اتّباع سنّة المُصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- ما رواه الصحابيّ الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه: (أنَّ نَفَرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سألوا أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عَمَلِه في السِّرِّ؟ فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، فقال: ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكِنِّي أُصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي).
تطبيق السنة النبوية
كيفيّة اتّباع سنّة رسول الله
يُعدّ اتّباع السنّة النبويّة من أعظم أبواب نيل رضا الله والفوز بمحبّته وجنّته، وقد أوجب الله تعالى على عباده اتّباع سنّة نبيه، واتّخاذه قدوةً حسنةً لهم في سائر أمورهم، قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) ويكون اتّباع السنّة النبويّة باتّباع أثر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في عبادته وطاعته فيما أمر، والانتهاء عمّا نهى، والاجتهاد في ذلك كلّه، كذلك فإنّ طاعة الرّسول بعد وفاته والتمسّك بسنّته وتقديمها على غيرها واعتقاد صحة أقواله وأفعاله، وأنّه رسول ربّ العالمين أرسله رحمةً للعالمين، فإن شكّ المرء في شيء من ذلك؛ كتمام سنّة النبي وشمولها، فقد ابتعد عن اتّباعه، متّبعاً هواه والشّبهات من حوله، وقد أخبر الله تعالى أنّ من اتّبع السنّة النبويّة كان ممّن يحبّهم سبحانه؛ فقال: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
ومن اتّباع سنّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، أن يبدأ المرء بنفسه، فيلتزم ما أمر به النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- وينتهي عمّا نهى، ثمّ يبدأ بنصح أهله والمقرّبين منه بأن يطّبقوا السنّة ويلتزمونها؛ فيعلّمهم إيّاها ويوضّح لهم فضلها وعظيم أجرها، ثمّ ينتقل إلى عموم المسلمين من حوله؛ محبّباً إيّاهم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، باذلاً جهده راغباً في إحيائها بينهم، وكذلك عليه أن يتقبّل نصح الآخرين من حوله، فإنّ من رغب عن نصيحة النّاس دلّ ذلك على غروره ورضاه عن نفسه، ولا يصل الإنسان مرحلة الرّضا عن النّفس إلا إذا جهل وتكبّر، فإنّ قبول النّصح من صفات العلماء والمؤمنين، وكذلك كان الصّحابة -رضوان الله عليهم- أمثال عمر بن الخطّاب الذي كان يقول: (رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي).
ولقد قسّم العلماء السّنن الواردة عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- إلى قسمين: سُنن هدى وسُنن زوائد؛ فسُنن الهُدى هي ما يُثاب فاعلها، ويلحق الكراهية والإساءة لمن تركها؛ كترك صلاة الجماعة وإقامة الصّلاة ونحوها، فهي التي واظب عليها الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- وأكّدها، وأما سنن الزّوائد فهي ما يُثاب من أتاها؛ لاتّباعه سنّة نبيه صلى الله عليه وسلّم، ولم يأثم تاركها، كاتّباعه -عليه السّلام- في طعامه وشرابه وجلوسه وقيامه، ويعدّ اتّباع سنّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عاصماً لصاحبها من الوقوع في البدع والحرام؛ لذلك فقد أوصى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه أن يتمسّكوا بها ويبذلوا الجهد في ذلك ما استطاعوا؛ ففي التمسّك بها كلّ الفضل والنّجاة، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (فعليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ).
سنة الرسول
المحافظة على السنة النبوية
فضائل اتّباع السنّة النبويّة
لاتّباع سنّة المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- آثارٌ وفضائل عظيمةٌ تعود على الفرد المسلم، من هذه الفضائل ما يأتي:
- نيل محبّة الله -عز وجلّ- ورضوانه؛ فإنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حبيب الله تعالى، فبطاعة المحبوب -عليه السّلام- تكون محبّة الله تعالى. نيل معيّة الله تعالى وتوفيقه للخير؛ فمن نال المحبّة نال المعيّة والتيسير.
- إجابة الدّعاء بإذن الله، فمن تقرّب بالنّوافل نال المحبّة، ومن نال المحبّة أُجيبت دعوته، ويوضّح هذه النّقاط الثلاث ما جاء في الحديث القدسي الذي يقول فيه تعالى: (وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحبَّه، فإذا أحببتُه: كنتُ سمعَه الَّذي يسمَعُ به، وبصرَه الَّذي يُبصِرُ به، ويدَه الَّتي يبطِشُ بها، ورِجلَه الَّتي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه) فمن تمسّك بالنّوافل متّبعاً خطى الرّسول عليه السّلام، نال كلّ هذه الفضائل من رضا الله تعالى واستجابة دعوته وتيسير جوارحه لما يرضيه.
- جبر ما ينقص من الفرائض بالنّوافل يوم القيامة، ففي الحديث الشّريف: (إنَّ أوَّلَ ما يحاسبُ بِه العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه فإن صلحت فقد أفلحَ وأنجحَ وإن فسدت فقد خابَ وخسرَ فإن انتقصَ من فريضة شيئًا قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى انظروا هل لعبدي من تطوُّعٍ فيُكمَّلَ بِها ما أنتقصَ منَ الفريضةِ ثمَّ يَكونُ سائرُ عملِه علَى ذلِك).
- ضمان حياة القلب وتيقّظه، واجتهاده في ما يفرح به يوم القيامة؛ فإنّ الإنسان إذا كان مواظباً على السّنن كانت مواظبته على الفرائض أجلّ وأعظم، وكذلك إن كانت تفوته السّنن دون قلقٍ أو اكتراثٍ فقد تكون فرائضه في خطر.
- العصمة من إتيان البدع؛ فإنّ من لازم السّنن وتميّز في إتيانها فقد نجا من البدع وطريقها بإذن الله.
اتباع سنة الرسول
إنَّ من أعظم أبواب الولوج إلى محبَّة الله تعالى: اتباعَ سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تعبِّر تعبيرًا صادقًا عن محبَّة المرء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك الذين يدَّعُون محبَّةَ الله أن يلتزموا بطاعة واتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: ٣١].
قال الإمام المفسِّر ابن كثير رحمه الله ممهِّدًا لتفسير الآية السابقة: “هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل مَن ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنَّه كاذِب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبع الشرعَ المحمدي، والدينَ النبوي في جميع أقواله وأحواله…، [ثم قال]: فيحصل لكم فوق ما طلبتم مِن محبَّتكم إياه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظم مِن الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأنُ أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قومٌ أنَّهم يُحبون اللهَ فابتلاهم الله بهذه الآية…”.
وقد أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربِّه أنَّ الله تعالى يحب عباده الذين يكثرون مِن النوافل والسنن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((…، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه…)) .
وما أرسَل الله مِن رسولٍ إلَّا أمَره بمهمَّة التبليغ والبيان لشرعه، فقال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: ٤]، فمهمَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم التبليغُ لشرع الله ورسالته، وترجمة هذه الرسالة بطريقة عملية من خلال الممارسة والفهم لها.
فلذلك أكَّد الله تعالى على وجوب اتِّباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنَّه القدوة الصالحة والخصلة الحسنة، التي يَنبغي على كلِّ مؤمن أن يقتدي به في أقواله وأفعاله وأحواله، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وقد أعلن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اتِّباع سنَّته شرطٌ لدعوى محبَّة دينه وملَّتِه، فقال: ((مَن أحبَّ فطرتي فلْيَستَنَّ بسنَّتي…))؛ ولذلك حثَّ أمَّتَه على التمسُّك بهديه وسنَّتِه فقال: ((عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ))، وأخبر عن عظيم أجر المتمسِّك بالسنَّة عند فساد الأمَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((المتمسِّكُ بسنَّتي عند فسادِ أمتي له أجرُ شهيد)) .
وإذا كنَّا نتكلَّم عن اتِّباع سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ لنا مِن بيان المراد منها، فقد قال العلماء في تعريف السنَّة لغة: إنها الطريقة المسلوكة، وأمَّا اصطلاحًا فعرَّفها المحدِّثون بأنها: ما أُضيفَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ .
أمَّا الأصوليون، فيقولون: إنَّها ما صَدَرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات .
فهم يجعلونها خاصَّة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون فيها “الوصف”؛ وذلك لأنَّهم يبحثون فيها كمصدر للتشريع، والتشريع يثبُت بالقول أو الفعل أو التقرير منه صلى الله عليه وسلم .
ولا بدَّ لنا مِن بيان أنَّ السنن مِن حيث ما يترتب عليها نوعان: سنن هُدى، وسنن زوائد.
أما سنن الهدى، فهي ما يُثَاب فاعله، ويوجِب تركها إساءة وكراهية؛ كترك الجماعات، والأذان، والإقامة، ونحوها مِن سنن الهدى المؤكَّدة التي واظب عليها النبيُّ.
وأمَّا سنن الزوائد، فهي التي لا يوجب تركها الكراهة، ولكن يُثاب فاعلها بنيَّة الاتباع للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كاتِّباعه صلى الله عليه وسلم في لباسه، وقيامِه وقعوده، وطعامِه وشرابه…، وما أشبه ذلك، وهي دون ما سبقها من السنن.
وهناك من السنن ما هو دون سنن الزوائد، وهي داخلة في إطار النوافل والمندوبات، وتعرَّف بأنها: ما يثاب فاعلها، ولا يسيء تاركها .
والسنن جوابر للفروض وما يحدث فيها مِن نقص؛ ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن أَعْمَالِهِم الصَّلاةُ، قَالَ: يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلائِكَتِهِ – وَهُوَ أَعْلَمُ -: انْظُرُوا فِي صَلاةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِن كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِن كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِن تَطَوُّعٍ، فَإِن كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ)) .
كما أنَّ السُّنة هي العاصِمُ من الوقوع في البِدَع الضالَّة، وكلما أُحييتْ سُنَّةٌ أُميتتْ بِدْعَةٌ؛ ولذلك ننصت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ينصح لأمَّته أن تلتزمَ السُّنة وتَحْذَرَ مِن البدع عند فشوها وانتشارها، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((… وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ…)) .
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: “الاقتصاد في السنَّة أحسن مِنَ الاجتهاد في البدعة” .
وقد نُقل عنه رضي الله عنه موقوفًا عليه أنَّ أول ما يدخل النَّقص على الأمَّة في دينها هو ترك السُّنة النبوية، فقال: “يكون عليكم أمراء يَتركون من السنَّة مثل هذا، وأشار إلى أصل إصبعه، وإن تركتموهم جاؤوا بالطامَّة الكبرى، وأنها لم تكن أمَّة إلا كان أولَ ما يتركون من دينهم السُّنة، وآخر ما يدَعون الصلاة، ولولا أنهم يستحيون ما صلَّوا” .
وأما إنكار السنَّة وتركها بالكليَّة، فهو أمر خطير، ينبئ عن انحراف فِكري، وخَلَل عقدي، وقد أخبر النبيُّ عن هذه الفئة الضالَّة التي تتذرَّع لهجر السنَّة بالتمسُّك بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا هل عسى رجل يبلُغُه الحديثُ عنِّي وهو متكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم الله))، وقد عَدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء المنكرين الضالِّين في جملة الملعونين عند اللهِ وعند رسولِه وجميعِ الأنبياء المقرَّبين، فقال فيما ترويه عنه السيدة الطاهرة أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ستة لعنتُهُم ولعنَهُمُ الله وكلُّ نبيٍّ مُجَاب: الزائد في كتاب الله عز وجل، والمكذِّبُ بِقَدَرِ الله عز وجل، والمستحلُّ حرمةَ الله، والمستحلُّ من عترتي ما حرَّم اللهُ، والتاركُ السُّنة)) .
فاللهمَّ أَحْيِنا على سنَّته، وأَمِتنا على مِلَّته، واسقِنا مِن حوضه، واحشرنا تحتَ لوائه.
العمل بالسنة النبوية
أخرج الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – قال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا َمَسَكْتُمْ بهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبيِّهِ»، (أخرجه مالك). إن السنةَ النبويَة الشريفة- على صاحبها أفضلُ الصلاة والسلام- هي الأصل الثاني من أصول الأحكام الشرعية، فهي والقرآنُ الكريمُ متلازمانِ، لا ينفك أحدُهما عن الآخرِ، فقد جاءت السنةُ النبويةُ المطهرةُ شارحةً للقرآنِ الكريم ومبينةً له: تُفَصِّلُ مُجْملَهُ، وَتُوَضِّحُ مُشْكلَهُ، وَتُقَيِّدُ مُطْلَقَه، وَتُخَصِّصُ عَامَّه، وقد تأتي بحكمٍ زائدٍ عن القرآنِ الكريمِ، وهي في ذلك كلّه واجبةُ الاتباعِ كالقرآنِ الكريم. * قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، «سورة النحل: الآية 44». وتابعت الأحاديثُ النبويةُ الآياتِ القرآنيةَ في بيان مكانةِ السنة، وضرورةِ اتباعها ووجوبِ طاعتها، كما حثت على تبليغِ السنةِ ونشرِها، ومن هذه الأحاديثِ ما يلي: * قولُه- صلى الله عليه وسلم-: «أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ! أَلا لا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَلا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ»، (أخرجه أبو داود). * وقولُه- صلى الله عليه وسلم-: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بفَقِيهٍ»، (أخرجه أبو داود). وباستقراء تلكَ الآياتِ وهذه الأحاديثِ يتضح لنا مدى ما تتمتع به السنة النبوية المطهرة من أهميةٍ في الإسلامِ، وما تحتله من مكانة في تشريعِ الأحكامِ. لذا فقد اعتنى العلماءُ المسلمون عبر التاريخ بالسنةِ النبويةِ المطهرةِ، فقاموا بجمعِ السنةِ وحفظها وتبليغها للناس، والدفاع عن حياضها، حيث انقطع لهذا العمل الجليل أئمة أفذاذ، وعلماء مخلصون قاموا بجمع السنة وتدوينها، ووضعوا لها أَدَقَّ الموازين وأضبطها؛ لحمايتها ومعرفة الدخيل الزائف منها، حتى تركوا لنا الأحاديث الصحيحة في موسوعات ضخمة، فجزاهم الله خير الجزاء. من الآيات الدالة على وجوب محبة الرسول – صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رحيمٌ)، «سورة آل عمران: الآية 31»، يقول العلامة ابن كثير – رحمه الله: «هذه الآية الكريمة حاكمة على كلّ من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، ولهذا قال: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول. السير على الهدي يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: «وقد ذُكرت طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وقوله عز وجل: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)، وقال – صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضى بحكمه، والتسليم له، واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، وردِّ ما يُتنازع فيه إليه، وغير ذلك من الحقوق، وأخبر أن طاعته طاعته، فقال: «مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ»، ومبايعته مبايعته، فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ»، وقرن بين اسمه واسمه في المحبة، فقال: «أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ»، وفي الأذى، فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ»، وفي الطاعة والمعصية، فقال: «وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ»، «وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ»، وفي الرضا فقال: «وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ»، فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأبي هو وأمي»، (مجموع فتاوى ابن تيمية 1/67-68). الطرق العلمية لخدمة السنة النبوية لذلك، فإن الواجب على العلماء أن تتضافر جهودهم وتجتمع كلمتهم على خدمة السنة النبوية الشريفة بكل الطرق والوسائل العلمية المتاحة كافة، وبذل كلّ ما في وسعهم من أجل تربية النفوس وبناء العقول وإصلاح القلوب، اقتداء بالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال: إعداد جيل ناشئ على حبِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وإحياء سنته، وربط الشباب بالسنة النبوية وتشجيعهم على العناية بها وحفظها وتطبيقها، وإنشاء كليات ومعاهد علمية ومراكز متخصصة في دراسة السنة النبوية الشريفة، وإنشاء مواقع متخصصة في السنة النبوية الشريفة على الشبكة العنكبوتية بعدة لغات، وذلك تحت إشراف أهل العلم والتخصص، وإقامة المسابقات في حفظ الأحاديث النبوية، وإعادة نشر المؤلفات المعنية بالسنة النبوية وسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقتدي بها شباب الأمة الإسلامية، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، «سورة النساء: الآية 59»، وقد أجمعت الأمة على أن الردَّ إلى الله يعني الردَّ إلى كتابه، وأن الردَّ إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاته يعني الردَّ إلى سنته، (الموافقات للشاطبي 4/321).