أحاديث

أول من دون السنة النبوية

أول من دون السنة النبوية

تدوين الحديث

 هو تدوين وتسجيل ما ورد عن النبي محمد من قول أو فعل أو تقرير، وقد أولاها المسلمون اهتمامًا بالغًا كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. لقد كان بداية مقتصراً على المشافهة والحفظ في الصدور و من ثم بدأ تدوين الحديث في القرن الثاني للهجرة 

أول من جمع السنة النبوية في كتاب

تعد السنة النبوية و الحديث الشريف  مصدراً للتشريع الإسلامي و الركن الثاني لمصدر الأحكام الإسلامية بعد القرآن الكريم.

كان قد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تدوين الحديث في عهده وذلك لأسباب معينة وليس تقليلاً من أهمية السنة أو إقراراها كمصدر تشريع أساسي، نذكر من أسباب منع تدوين السنة في عهد الرسول علية الصلاة وسلام

  • كي لا يختلط بالقرآن الكريم
  • إضافة لقلة المواد التي يكتب عليها والأدوات الكتابية

وكذلك في عهد الصحابة كان الاعتناء بكتابة القرآن وجمعه في عهد أبي بكر الصديق إلى عهد عثمان لمّا أمر بنسخ المصحف، وظلّ وضع الحديث هكذا إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز حيث أرسل إلى أبي بكر بن حزم قاضيه على المدينة قائلاً: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت ضياع العلم وذهاب العلماء.. وعمّم هذا الأمر إلى جميع الأمصار. ومن الأسباب الأخرى التي دعتهم إلى تدوين الحديث موت الصحابة والعلماء، وكثرة الوضع في الحديث. وتبع عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري لأنّه أعلم رجل بالسنّة في ذلك الوقت، فدوّن كل ما سمعه من الصحابة، ولكن يشكل غير مبوب ومفصل، ثمّ جاء التصنيف والتبويب للأحاديث حسب المواضيع، ثم تبعه بعد ذلك تلاميذه مالك بن أنس عالم أهل المدينة. منهج العلماء في جمع الحديث وتدوينه بعد أن كان حفظ الحديت في الصدور أصبح هناك من يضع في الحديث، لذلك بدأ التابعون بجمع الحديث وتحرّي الصحيح ووضع شروط لقبول الحديث. دوّن الحديث في أوّل الأمر من غير ترتيب مختلط مع أقوال الصحابة والتابعين والأئمة، ظهر في هذا الوقت موطأ مالك (176) هجري الذي صنَّفه على مسائل الفقه، جامعاً بين المرفوعات والموقوفات والمقاطيع ورأي علماء المدينة ورأيهم. بدأ أفراد السنة بالتدوين، وكان ذلك مع نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري، حين أخذ العلماء في جمع الحديث مجرداً في مصنفات مستقلة. تنوّعت مناهج المصنفين في هذه الفترة؛ منهم من جمع الحديث الصحيح وقسمه إلى أبواب فقهية مثل (الإمام البخاري) ومنهم من ألف المسانيد مثل (مسند الإمام أحمد) تقسيم على اسم الراوي: وظهرت كتب السنن مثل (سنن أبي داود). جاء دور التهذيب بعد أن فرغ العلماء من تبيان الحديث الصحيح من الحديث السقيم، بعد القرن الرابع جاء التأليف، فاستوجب ذلك العناية بالحديث من كل الجوانب؛ حيث ظهرت كتب الأطراف، وكتب الزوائد، وكتب الجوامع التي حاولت استقصاء السنة، وكتب الشروح للمتون، وكتب غريب الحديث، وكتب المصطلح، والكتب التي تجمع نوعاً معيناً من الحديث، والكتب المتواترة.

تدوين السنة في عهد الصحابة

كره الصحابة تدوين السنة الشريفة وذلك خشية لاختلاط الأمر بالقرآن الكريم، و كانو منشغلين حينها بجمعه، وانتهى بهم الأمر إلى تدوين بعض الصحف مثل صحيفة سعد بن عبادة الأنصاري و كتب أبي هريرة و صحيفة أبي موسى الأشعري وصحيفة جابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعاً.

يمكننا القول أن علوم الحديث والسنة الشريفة طهرت وبدأت تأخذ معالمها الواضحة في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.

ولقد عمل أبو بكر الصديق بالحكم والتشريع بناء على سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حادثة المرأة التي سألت عم ميراثها فقضى لها الصحابة بناءً على ما سمعوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام و أٌر أبو بكر ذلك بناء على اجتماع صحبيين بالرأي .

تاريخ تدوين الحديث

 

  • مرحلة البدء والتأسيس في عهد الصحابة

بدأت هذه المرحلة بعد وفاة الرسول، وقد انتشر الصحابة في الآفاق لعدم قدرتهم إلى الرجوع إلى الرسول، وبرز الاهتمام بعلم النحو بسبب فساد اللسان العربي، وقد حرص الصحابة على الحذر والتثبت والتحري في نقل الحديث، وبعد مقتل عثمان بن عفان حصلت الفتنة وبدأت الفرق الكثيرة تخرج، فقد كانوا يطلبون السند من بعضهم البعض، ويقصد بالسند من هو الصحابي الذي رويَ الحديث عنه أي قائله، فاتسمت هذه المرحلة بـ: التثبت في أخذ الأخبار، وكيفية ضبطها، بالانتباه لها، ووعيها، والتدقيق في نقلها للآخرين. الاعتدال في الرواية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من التحذير بالكذب على رسول الله. نقد المتن والحذر واليقظة من أهل الفتن والأهواء. مرحلة البناء والتأصيل والتكامل يعرف بعصر التابعين وهم اللذين لم يروا الرسول لكنهم آمنوا به، وفيه هذه المرحلة ظهر التثبت من الرواية، ودقق في النقل، بسبب ظهور من يتعمد الكذب والمتعصبون للمذاهب المختلفة.

وأبرز ما ظهر في هذه المرحلة علم  الجرح والتعديل، الذي يبحث في أحوال الرواة من حيث القبول والرد، وهذا أدى إلى الاجتهاد في البحث عن الرواة، ونقد الإسناد.

  • مرحلة النضوج والتدوين

اتسم هذا العصر بالقوة، والنضوج، والرسوخ، وفي هذه المرحلة دونت الأحاديث، وصنف العلماء علم المصطلح إلى المرسل، العلل، وتاريخ الرجال، والثقات، والضعفاء، والناسخ والمنسوخ.

  • مرحلة الكتابة والاستكمال

تمت في هذه المرحلة بتدوين الحديث في كتب خاصة، وبدأ الاهتمام في أنواع علم المصطلح المختلفة، وأهم هذه العلوم: علم الجرح والتعديل. علم رجال الحديث. علم مختلف الحديث. علم علل الحديث. علم غريب الحديث. علم ناسخ الحديث ومنسوخه.

  • مرحلة الجمع والترتيب والتمحيص

وما تلاها اتسمت هذه المرحلة بالضبط والنقد بالرغم من كثرة العلماء، واشتهرت هذه المرحلة بالتأليف لتستفيد من الكتب التي ألفت في المرحلة السابقة،

وتلاها كل من المراحل التالية:

  • مرحلة الركود والجمود: توقف الاجتهاد في مسائل العلم والابتكار والتصنيف.
  • مرحلة اليقظة والتنبه: بعد اتصال الغرب بالشرق، ونتيجة الحروب العسكرية والفكرية، تنبهت الأمه الإسلامية لهذه الأخطار، الأمر الذي أدى إلى ابتكار طرق جديدة للتدوين.

أسباب تدوين الحديث

  • استخراج المعاني واستنباط الأحكام من تعاليمه.
  • ووضع الضوابط التي تمكن المسلم من خلاها الاطمئنان إلى معرفة الحديث المقبول من المردود، والصحيح من الضعيف، والمتصل من المرسل.
  • المساهمة في حفظ أصول الدين وسنة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الدراية والبحث والنقد والتثبت، ومنع أهل البدع والأهواء والإلحاد من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
  • الاقتداء برسول الله من خلاله.
  • تنقية وصيانة الأذهان من الخرافات والأساطير التي تفسد العقل.
  • معرفة المسلم لقواعد هذا العلم الذي تجنبه خطر الوعيد العظيم.

جهود أئمة الحديث في حفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم

 

يجب على المسلم أن يعلم أن الله حفظ كتابه وسنة رسوله بالعلماء العدول، من الصحابة ومن بعدهم وإلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله: لما كان القرآن متميزاً بنفسه – لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88] وكان منقولاً بالتواتر – لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه؛ ولكن طمع الشيطان أن يُدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يُدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يُضل به بعض العباد. فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان. وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين – مقام أهل الفقه الذين فقهوا معاني القرآن والحديث – بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي: الذي لا يسوغ عنه العدول؛ ومنه الخفي: الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول. وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة، والقصص المأثورة، ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم. ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية .

وقال المحدث العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله تعالى كما في كتابه التنكيل (1/ 234): “ومَنْ مَارَسَ أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها؛ علم أنَّ عناية الأئمة بحفظها وحراستها، ونفي الباطل عنها، والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين؛ كانت أَضْعَافَ عنايةِ الناس بأخبار دنياهم ومصالحها.

وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر:9].

والذكر يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة لأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلة بقائهم فيها.

قال الحافظ العراقي في شرح ألفيته (١/ ٢٦٧): روينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث”.
وقد أفنى علماء الحديث أعمارهم في جمع طرق الأحاديث، فالحديث الواحد قد يجمعون له عشرات الأسانيد عن مشايخهم الذين كانوا يرحلون إليهم في مختلف البلدان ليسمعوا منهم الأحاديث بأسانيدها، وربما جمعوا لبعض الأحاديث أكثر من مائة إسناد، وبذلك سهل عليهم معرفة الكذابين وتبين لهم خطأ من أخطأ بزيادة أو نقصان.
قال الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى: “الباب إذا لم تُجْمَعْ طُرقُه لم يُتبيَّن خطؤُه”. ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 212).

وبجمع المحدثين للروايات كان يتبين لهم حال الرواة في الحفظ والإتقان، فمن وافق من الرواة أصحابه الذين يشاركونه في الرواية عن شيخهم تبين لهم ضبطه وإتقانه، فإن خالفهم بالزيادة والنقصان والخطأ تبين لهم ضعف حفظه، فإن أضاف إلى ذلك تفرده بروايات عن شيخهم الواحد ولم يذكرها غيره من طلاب ذلك الشيخ تبين لأهل الحديث كذب ذلك الراوي أو اتهموه بالكذب بحسب إكثاره من التفرد وبحسب مروياته ومخالفته لأقرانه الذين يروون عن شيخ واحد.

قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه (1/ 7): “وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله”.

وقال ابن أبي حاتم رحمه الله في مقدمة كتابه الجرح والتعديل (1/ 5 -7): “وجب أن نميز بين عدول الرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة. ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة حُق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية و الحكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل، لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه، وأن يُعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عورتهم في كذبهم، وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليُعرف به أدلة هذا الدين”.

وليُعرف أهل الكذب تخرصاً، وأهل الكذب وهماً، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيُكشف عن حالهم، فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يُعبأ به ولا يُعمل عليه، ويُكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار.

ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم؛ ليُعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والبحث عن الرجال والمعرفة بهم، وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح، ويُعرف من كان منهم عدلاً في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه. ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب، فهذا يُترك حديثه ويطرح روايته ويُسقط ولا يُشتغل به” انتهى بتصرف واختصار.

وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: “لا يجوز أن يكون الرجل إماما حتى يعلم ما يصح مما لا يصح, وحتى لا يحتج بكل شيء, وحتى يعلم مخارج العلم”. ينظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (1/ 179).

ومنكرو السنة يجهلون جهود العلماء قديما وحديثا في حفظ السنة النبوية أو يتجاهلون هذا ظلما وعلوا، ويريدون أن يُسقطوا السنة النبوية التي بها قوام الملة الإسلامية، فالإسلام كتاب وسنة ولو كره الكافرون والمبتدعون الضالون.
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾

صحيح البخاري عبقرية التأليف لبيان عظمة السنة النبوية

تلقى السنة النبوية والعلم عن ألْف شيخ خلال رحلته الواسعة في طلب العلم، وتحصل له جمع 600 ألف سند لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم (الحديث الواحد قد يكون له عشرات الأسانيد، ويعد كل إسناد حديثا عند علماء الحديث)، وقد تتلمذ عليه كثير من علماء الحديث كمسلم بن الحجاج وابن خزيمة والترمذي، وهو أول من ألّف كتاباً في تاريخ رجال الحديث، وأول من ألّف كتاباً في حصر الأحاديث الصحيحة فقط.

وجعل البخاري لنفسه معياراً علمياً دقيقاً في انتقاء الأحاديث لهذا الكتاب لم يستطع أحد غيره من الالتزام به، ومن ثم بقي يطبق هذا المنهج لمدة 16 سنة برغم أنه يحفظ الأحاديث أصلاً، ولكنه طوّر الفكرة لتصبح جمع الأحاديث الصحيحة على أبواب الفقه، وهذا يحتاج إلى حسن فهم وفقه وليس حفظا فقط، وهنا تتبيّن عبقرية البخاري وإبداعه وأنه ليس محصوراً في دقة الحفظ، بل في عمق الفهم والفقه أيضاً، بل هو الأصل.

وقد أبدع البخاري في هذه التراجم من خلال ربط القرآن الكريم بالسنة النبوية حيث أحياناً يكون العنوان آية قرآنية أو جزءا منها، وأحيانا يكون العنوان حديثا معلقا، لأنه لم يستكمل شروطه في الصحة فوسع دائرة الاستشهاد ولم يُخل بشرطه المعياري، وكذلك قد يتضمن العنوان أو الترجمة لقول الصحابة مما وسع دائرة اختيار البخاري في الفهم والفقه مع الحِفاظ على شرطه في قوة الصحة، وهذا كله من إبداع التأليف والجمع الذي ربط قوة الحفظ واتساعه مع قوة الفهم وشموله.
هذه المنهجية العبقرية في تأليف البخاري لصحيحه لخصها د. العجين في مثلث: اشتراط أعلى درجات الصحة وكون شروط البخاري في صحيحة هي الأشد على الاطلاق من بين كتب الصحاح فلم يكتفي البخاري من شرط معاصرة الرواة بعضهم بعضاً و إنما اشترط كذلك إمكانية اللقاء بينهم للتأكد من صحة نقلهم عن بعضهم البعض وعدم انقطاع السند بين الرواة،  إضافة للاستنباط الدقيق من الأحاديث، التناسب البديع في ترتيب الكتب والأبواب والأحاديث.
وهذه المنهجية الصارمة هي التي جعلت البخاري يستغرق 16 سنة في جمع وترتيب صحيحه، بل كان البخاري يستيقظ من النوم فيوقد السراج ويكتب الفائدة التي تمرّ بخاطره ثم ينام عدة مرات تكاد تبلغ 20 مرة في الليلة!
لكن النتيجة كانت أن البخاري بعد أن أنجز كتابه هذا وعرضه على كبار العلماء والمحدثين كالإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم فارتضوه وشهدوا له بالصحة، وتقبلته من بعدهم الأمة بالرضى والقبول إذ سمة العبقرية والإبداع تقبّل البيئة المجتمعية لها، فقرأ البخاري صحيحه على 90 ألفا من طلبة العلم في حياته، وبعد مماته انتفع بكتابه هذا مئات الملايين، وهذا ما يغيظ الأعداء ويجعل البخاري في مركز هجومهم على الإسلام والسنة النبوية.

مِن أقوال ابنِ حَجَر رحمه الله عن الإمام البخاري

ذكر ابن حجر : ( استدرك الدار قطني على البخاري ومسلم أحاديث ، وذلك الطعن مبني على قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدا ، مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول وغيرهم ، فلا تغتر بذلك ) ، ثم قال الإمام ابن حجر موضحا الأمر بشكل أكثر تفصيلا : ( لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعل ، فإنهم لا يختلفون أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث ، وعنه أخذ البخاري ذلك ، حتى كان يقول : ” ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ” ، ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول : ” دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه ” ، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري ، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا ، وروى الفربري عن البخاري أنه قال : ” ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته ” ، وقال مكي بن عبد الله : سمعت مسلم بن حجاج يقول : عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي ، فكل ما أشار أنه له علة تركته ، وقد تقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له ، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما ، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما ، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة ) .
ثم شرع رحمه الله في بيان هذه الأحاديث على حسب ورودها في ” الصحيح ” ، ثم قال رحمه الله : ( هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد ، المطلعون على خفايا الطرق … وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر ، والقدح فيه مندفع … كما شرحته مجملا في أول الفصل وأوضحته مبينا أثر كل حديث منها ، فإذا تأمل المصنف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه ، وجل تصنيفه في عينه ، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم ، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم ، وليسا سواء من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية ، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية ، فلله الحمد الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) .
وبعد أن ظهر أن الخطأ في الصحيح نادر جدا ، فليس في المتون إلا أحرف يسيرة الغالب فيها الوهم ، وأكثر الأسانيد التي تكلم فيها لا يضر ذلك شيئا من متونها ؛ لأن لها أسانيد أخرى صحيحة سالمة من العلل .
رحم الله أئمتنا وعلماءنا البخارى ومسلم والدار قطنى وابن حجر رحمة واسعة .. ونفعنا بعلمهم وتراثهم .

 

السابق
ما أكبر مدينة في العالم
التالي
الانترنت

اترك تعليقاً