ديني

التوبة النصوح

التوبة النصوح من الكبائر

أقسام الذنوب يُطلَق الذنب على كلّ ما فيه مُخالَفةٌ، أو عصيانٌ لأوامر الله -تعالى-، أو ما فيه ارتكابٌ لِما نهى عنه، وتُقسَم الذنوب إلى صغائر، وكبائر، وبيانها فيما يأتي:[١] الصغائر الصغائر جمع صغيرةٍ، وهي: كلّ ذنبٍ لم يترتّب عليه حَدٌّ من الله -تعالى- في الحياة الدنيا، ولا وعيدٌ منه يوم القيامة، وقد عرّفها ابن النّجار بأنّها: كلّ فعلٍ مُحرَّمٍ يرتكبه المسلم، أو قولٍ يصدر منه، وليس من الأمور التي ورد فيها حَدٌّ، أو عقوبةٌ في الآخرة، وعرَّفها أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية بأنّها: الذنوب المُرتكَبة دون ترتُّب حَدٍّ عليها في الدنيا، أو الآخرة.[٢] الكبائر تُعرَّف الكبائر بأنّها: كلّ ذنبٍ يرتكبه العبد، ويترتّب عليه بسببه وعيدٌ شديدٌ ثبت بكلام الله -تعالى-، أو بسُنّة النبيّ محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم-، وقد عرَّفَ البعض الكبيرة بأنّها: كلّ ذنبٍ قُرِنَ ذِكره بنارٍ، أو غضبٍ من الله -تعالى-، أو لعنةٍ، أو عذابٍ، أو حَدٍّ، أو نتجت عنه العديد من المفاسد،[٣] وقد اختلف أهل العلم في تحديد عدد الكبائر؛ فقال بعضهم بأنّها سبعٌ؛ استدلالاً بقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ)،[٤] وذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّها سبعون ليست سبعاً، وقال البعض من العلماء بأنّها لا تُحصَر في أيّ عددٍ؛ بل إنّ كلّ ذنبٍ ترتّب عليه عذابٌ، أو تهديدٌ، أو لعنٌ، أو غضبٌ يُعَدّ كبيرةً،[٥] ويرجع سبب الخلاف إلى الاختلاف في فهم المجتهد لنصّ القرآن الكريم، أو السنّة النبويّة فيما يتعلّق بالكبائر، وتحديد ما يترتّب على ارتكاب الذنوب،[٦] ومن أمثلة الكبائر: القتل؛ لما يُسبّبه من إيذاءٍ للنفس، واعتداءٍ عليها، ويَلحق به أيّ فعلٍ يُسبّب الهلاك للنفس، كقطع الأطراف، والزنا، وأكل أموال اليتامى، وشهادة الزور، والربا، وغيرها من الذنوب والمعاصي.[١] كيفيّة التوبة من الكبائر التوبة شرعاً تُطلَق على الرجوع إلى الله -عزّ وجلّ-، وسلوك الطريق الذي أمر الله به، وقد عرّفها البعض بأنّها: تَرك الأفعال المذمومة، وإبدالها بالأفعال المحمودة، بمختلف الطرق المشروعة، وعرّفها الإمام الغزاليّ -رحمه الله- بأنّها: الرجوع إلى الله -تعالى- الذي يعلم الغيب، ويستر العيوب.[٧] وتتحقّق التوبة من الذنوب بمجملها؛ بالرجوع والإقلاع التامّ عن ارتكابها، وعقد العزم والإصرار على عدم العودة إليها مرّةً أخرى بعد التوبة، والندم على ما مضى من الوقوع في الذنب والابتعاد عن الطاعات والعبادات،[٨] فعلى سبيل المثال تكون التوبة من الشرك بالله -تعالى- بتوحيده، والحرص على التقرُّب منه، وإخلاص النيّة له، وعدم اتِّخاذ مُعينٍ، أو وليٍّ، أو ناصرٍ غيره -سبحانه-، والسَّعي إلى كَسب رضاه، واتِّباع ما أمر به، والابتعاد عن كلّ أمرٍ نهى عنه، وعدم اتّخاذ المشركين أولياء، أمّا من كان منافقاً وأراد أن يتوب، فتتحقّق توبته بالتمسُّك بدين الله -تعالى-، ومحاولة تنقية دينه وإيمانه بالله من الرياء، ومن كان فاسقاً بالعمل أو العقيدة، فعليه أن يمتثل طاعة الله -تعالى-، وأن يهجر المعاصي التي كان يرتكبها، ويقهر شهوته وطِباعه بقوّة إيمانه بالله -تعالى-، والخشية من عذابه، والرجاء لطاعته، وعبادته، ورحمته، ومن كان يتعامل بالربا، فعليه أن يتركه، ويبتعد عن أيّ معاملةٍ ربويّةٍ، ويتخلّص من كلّ ما لديه من أرباحٍ نتجت عن الربا بعد أخذ رأس المال، وإن كان الذنب مُتعلِّقاً بظُلم الآخرين؛ بالمال، أو العِرض، أو الدم، فيتوجّب عليه أداء ما عليه من حقوقٍ لهم.[٩] كما يُستحَبّ للمسلم إن تاب إلى الله من ذنبٍ ما؛ سواءً أكان من الصغائر، أم الكبائر، أن يُؤدّي صلاة التوبة؛ وتكون بأداء ركعتَين عند التوبة من الذنب، ولا يُشترَط أن تكون بعد الذنب مباشرةً؛ ويُستدَلّ على استحبابها بقول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: (ما مِن عبدٍ مؤمنٍ يُذنِبُ ذَنبًا فيَتوضَّأُ فَيُحسِنُ الطُّهورَ، ثمَّ يصلِّي رَكْعتينِ فيستَغفرُ اللَّهَ تعالى إلَّا غَفرَ اللَّهُ لَهُ ثمَّ تلا وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)،[١٠] وعلى المسلم أن يبادر بالتوبة قبل أن يُغلَق بابها بحضور الموت، أو نزول العذاب، أو طلوع الشمس من جهة الغرب.[١١] تكفير الكبائر لا تُكفَّر الكبائر إلّا بالتوبة، بخِلاف الصغائر التي تُكفَّر بعدّة طرقٍ، كالصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، وغيرهما من الطرق، وتجدر الإشارة إلى أنّ النصوص الشرعية الواردة في القرآن الكريم، والسنّة النبويّة في بيان تكفير الذنوب ببعض الأعمال الصالحة لا تشمل إلّا الصغائر دون الكبائر، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن الصحابي عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (مَن تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هذا ثُمَّ قامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِما نَفْسَهُ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)،[١٢] إذ ورد التقييد بالصغائر في رواياتٍ أخرى، إلّا أنّه يُخفّف في الكبائر عن المُذنب؛ فلا تُوجَد نصوص شرعية تدلّ دلالةً واضحةً على تكفير الكبائر بتلك الأعمال.[١٣] فضائل التوبة تترتَّب على التوبة العديد من الفضائل العائدة على التائب في الدنيا، والآخرة، وفيما يأتي بيان البعض منها:[١٤] رحمةٌ من الله -تعالى- بعباده؛ إذ إنّ الله يفرح بتوبة عباده المؤمنين، كما بيّن ذلك النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في العديد من الأحاديث، منها قوله: (لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وبِهِ مَهْلَكَةٌ، ومعهُ راحِلَتُهُ، عليها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وقدْ ذَهَبَتْ راحِلَتُهُ، حتَّى إذا اشْتَدَّ عليه الحَرُّ والعَطَشُ أوْ ما شاءَ اللَّهُ، قالَ: أرْجِعُ إلى مَكانِي، فَرَجَعَ فَنامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فإذا راحِلَتُهُ عِنْدَهُ).[١٥] النجاة من عذاب الله -سبحانه-، ونَيل رحمته وفضله. تكفير الذنوب والسيّئات، والاستعداد للقاء الله -سبحانه- يوم القيامة؛ بالخُلوّ من الذنوب، والمعاصي. نَيل التائب الصادق العديد من النِّعَم والخير من الله -تعالى-، بالإضافة إلى الفلاح والتوفيق منه. نَيل مَحبّة الله -عزّ وجلّ-. التخلُّص من وساوس الشيطان، والتغلُّب على كَيده، ومَكرِه. للمزيد من التفاصيل عن التوبة الاطّلاع على المقالات الآتية: ((علامات قبول التوبة من الكبائر)). ((ما الفرق بين التوبة والاستغفار)).

 

شروط التوية النصوحة

من تاب توبة صادقة تاب الله عليه، ولو من الشرك، إذا تاب توبة صادقة مشتملة على الشروط الشرعية، فإن الله يتوب عليه -جل وعلا-، كما قال جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: من الآية53]، أجمع العلماء على أن المراد بالآية التائبون، من تاب تاب الله عليه، وقال النبي ﷺ: التوبة تهدم ما كان قبلها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: التوبة تجب ما كان قبلها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقال -جل وعلا-: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: من الآية31]، فبين سبحانه أن التائب مفلح، وشروطها ثلاثة:
الشرط الأول: الندم على الماضي، كونه يحزن ويندم على ما مضى منه من المعصية.
الشرط الثاني: إقلاعه منها وتركها لها خوفاً من الله وتعظيماً لله.
الشرط الثالث: العزم الصادق ألا يعود فيها، فأما يقول ندمت وهو يفعلها ما هو تائب، لا بد من الندم على الماضي والترك لها، كونه يقلع منها ويتركها، كان زنا ترك الزنا، كان سرقة تركها، كان عقوق ترك العقوق، إن كان قطيعة رحم ترك قطيعة الرحم، كان معاملة ربوية ترك المعاملة الربوية، وهكذا.
والثالث أن يعزم عازماً صادقاً ألا يعود إلى المعصية هذه، فهذه الشروط الثلاثة لا بد منها إذا تمت وتوافرات صحت التوبة، ومحى الله عنه الذنب، إلا إذا كان الذنب يتعلق بمخلوقين أو من أحد فلا بد من شرط رابع، أن يتحللهم أو يعطيهم حقوقهم، إذا كان مثلاً سرق من إنسان مال، ما تتم توبته حتى يرد المال على صاحبه، أو يتحلله منه، أو ضربه أو قطع يده، أو ما أشبه ذلك لا بد من التحلل، أو يعطيه القصاص يقتص منه.

 ثمرات التوبة النصوح

بكي كثيرًا من كثرة ذنوبي فأنا كنت شابًا صالحًا لأسرة صالحة, فقد كنت أستمني في ليل رمضان, ولا أغتسل حتى الصباح عن جهل أن ذلك قد يبطل صومي, فما الحكم؟ ثم أصبحت أشاهد الأفلام الإباحية, وتعريت أمام الكاميرا لرجال وسيدات, وكنت أستمني وهم يشاهدونني, ثم تعرفت إلى فتاة أجنبية, وسافرت لها أكثر من مرة, وكنت ألمس وأقبل جميع جسمها – وهي كذلك – حتى خروج المني؛ حتى أنها قبلت عضوي أكثر من مرة, ووضعته في فمها حتى الاستمناء, وكنت أحك جسدي بها من الخلف وأنا مرتدٍ ملابسي دون إيلاج حتى نزول المني مني, وحدث ذلك أحيانًا في ليل رمضان, ولم أكن أغتسل حتى الصباح, وأنا خائف من ربي, وعندما أتذكر كل ذلك لا أصدق أني فعلت كل هذا, فقد أصبحت محطمًا نفسيًا خوفًا من ربي الذي عصيته, وأنا لم أترك الصلاة في حياتي أبدًا, وعلى الرغم من هذا نسيت ربي وعصيته, وأنا أريد أن أعرف هل هذا زنا؟ أم أنني لم أقع فيه, وأحمد الله أني لم أتمادَ أكثر في ذلك؟ وماذا أفعل بشأن الأيام من رمضان؟ أعلم – يا شيخي – أنك قد تلعنني, وتكره أن ترى مسلمًا يفعل ذلك, ولك كل الحق, فأنا إنسان سيء, وأنا أبكي في صلاتي, وأستحيي من الله أن أصلي له وقد فعلت كل ذلك, وكل ما أريده أن أرجع بلدي لأبي وأمي, وأعيش حياة نظيفة, وأجد فتاة طيبة صالحة كزوجة, ولكني أصبحت خائفًا من عمل ذلك؛ لأني أشعر أني سوف أظلم من أتزوجها بتاريخي السيء وذنوبي, وأنا لا أعرف ماذا أعمل, وأشعر أني أفسدت دنياي وآخرتي, وأني مهما فعلت فالله لن يسامحني, والجنة لن تكون مثواي.
آسف للتطويل, وآسف لأني آذيتكم بكلمات وأفعال يعجز اللسان عن قراءتها, والعقل عن تصورها, ففي رسالتي محن, وذنوب عظيمة فأرجو من حضرتكم الرد, وماذا أفعل؟
وأرجو من الله أن يسامحني, بارك الله لكم, وشكرًا.

الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فاعلم أن النوم على جنابة حتى الصباح لا يفسد الصيام، وانظر الفتوى رقم: 18078.

ولكن الاستمناء – وكذلك مشاهدة الأفلام الإباحية – منكر ظاهر, وأشد من ذلك ما وقع بينك وبين المرأة من أمور المعاشرة، وهذه الأفعال – وإن كانت لا تصل إلى الزنا الحقيقي الموجب للحد – إلا أنه ليس بالأمر الهين، بل هو منكر قبيح, وهو طريق للوقوع في الفاحشة, وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا, مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. متفق عليه.

لكن اعلم – أخي الكريم – أن الذنب مهما عظم فإن رحمة الله أعظم، فمن تاب توبة صحيحة تاب الله عليه، بل إن الله يفرح بتوبة العبد, ويحب التوابين ويبدل سيئاتهم حسنات.

والتوبة تكون بالإقلاع عن الذنب, والندم على فعله, والعزم على عدم العود إليه، مع الستر على النفس, وعدم المجاهرة بالذنب، وننصحك بالمبادرة بالزواج من امرأة صالحة حتى تعف نفسك وتحصن فرجك، ولا تمتنع من ذلك بدعوى أنك تظلم من تتزوجها بذنوبك السابقة, فهذا من تلبيس الشيطان، فالتوبة الصحيحة تمحو أثر الذنب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. رواه ابن ماجه.

واعلم أن القلب يعود بعد التوبة أقرب إلى الله, وأكثر حبًا له, وشوقًا إليه, وإقبالًا على طاعته, واستشعارًا لحلاوة الطاعة ، فإذا كنت قد تبت إلى الله فأبشر خيرا – بإذن الله – واحذر من وساوس الشيطان ومكائده, ولا تيأس أبدًا، وكن بين الخوف والرجاء, وهما يحمدان إذا حملا العبد على الكف عن المعاصي والاجتهاد في الطاعات.

أما الخوف الذي يقنط العبد من رحمة الله, أو الرجاء الذي يجرّئ العبد على المعصية ويقعده عن الطاعة فكلاهما مذموم، فأقبل على ربك, وأحسن الظن به فهو أرحم الراحمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول : أنا عند ظن عبدي بي, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر. رواه الإمام أحمد.

والله أعلم.

التوبة النصوح ابن القيم

مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يجريها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي من ألطف ما تكلم فيه الناس وأدقِّهِ وأغمضِهِ. وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيمُ العليمُ سبحانه، ونحن نشير إلى بعضها: فمنها: أنه سبحانه يُحِبُّ التَّوابينَ، حتى إنه من محبته لهم يفرح بتوبة أحدهم أعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامهُ وشرابهُ في الأرض الدَّوَّيَّةِ المُهلِكَةِ إذا فقدها وأيِسَ منها، وليس في أنواع الفرح أكملُ ولا أعظمُ من هذا الفرح ولولا المحبة التامة للتوبة ولأهلها لم يحصل هذا الفرح. ومن المعلوم أن وجود المسبب بدون سببه مُمتنعٌ، وهل يوجدُ ملزومٌ بدون لازمه، أو غايةٌ بدون وسيلتها؟!. وهذا معنى قول بعض العارفين: ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه. فالتوبة هي غاية كمال كل آدمي، وإنَّما كان كمالُ أبيهم بها، فكم بين حالة وقد قيل له:{إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118] وبين قوله:{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] فالحالُ الأَوَّلُ حالُ أكلٍ وشربٍ وتمتُّعٍ، والحالُ الأخرى حالُ اجتباءٍ واصطفاءٍ وهدايةٍ، فيا بُعْدَ ما بينهما! ولمّا كان كمالُهُ بالتَّوبَةِ كانَ كمالُ بنيهِ أيضًا بها، كما قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:73]. فكمالُ الآدميِّ في هذه الدَّارِ بالتَّوبَةِ النَّصُوحِ، وفي الآخرَةِ بالنَّجاةِ منَ النَّارِ ودخولِ الجنَّةِ، وهذا الكمالُ مُرتَّبٌ على كمالهِ الأوَّل. والمقصودُ أنَّهُ سبحانهُ لِمحبَّتِه التَّوبَةَ وفَرَحِة بها يَقْضي على عبدهِ بالذَّنبِ، ثمَّ إِنْ كانَ ممَّن سَبَقَتْ له الحسنى قضى لهُ بالتَّوبَة، وإنْ كان ممَّن غلبت عليه الشقاوةُ أقامَ عليه حُجَّةَ عَدلِهِ وعاقَبَةُ بذنبه. ومنها: أنه سبحانه يحب أن يتفضل عليهم، ويُتِمَّ عليهم نِعَمَهُ، ويُريهم مواقع برَّهِ وكرمهِ، فلمحبَّتهِ الإِفضالَ والإِنعامَ يُنَوَّعُهُ عليهم أعظم الأنواع وأكثرها في سائر الوجوه الظاهرةِ والباطنةِ. ومن أعظم أنواع الإحسانِ والبرَّ أن يُحسِنَ إلى من أساءَ، ويعفو عمَّن ظلم، ويغفرَ لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عُذر من اعتذر إليه. وقد ندب عبادهُ إلى هذه الشِّيم الفاضلة والأفعال الحميدة – وهو أولى بها منهم وأحقَّ – وكان لهُ في تقدير أسبابها من الحِكَمِ والعواقب الحميدة ما يبهرُ العقولَ، فسبحانه وبحمده. ومنها: أنَّهُ سبحانهُ لهُ الأسماءُ الحُسنى، ولكلِّ اسمٍ من أسمائهِ أثرٌ من الآثار في الخلق والأمر، فلو لم يكن في عباده من يُخْطِيءُ ويُذنبُ ليتوب عليه ويغفر لهُ ويعفو عنهُ لن يظهر اثرُ أسمائهِ الغفور والعفوَّ والحليم والتَّواب وما جَرى مجراها. ومنها: أنَّه سبحانهُ يُعرِّفُ عبادهُ عزَّهُ في قضائه وقدره ونفوذ مشيئته، وجريان حكمته، وأنَّه لا محيص للعبد عمَّا قضاهُ عليه ولا مفرَّ له منه، بل هو في قبضة مالكه وسيَّده، وأنَّه عبدُهُ وابنُ عبدهِ وابنُ أمتهِ، ناصيتهُ بيدهِ، ماضٍ فيه حكمهُ، عدلٌ فيه قضاؤهُ. ومنها: أنَّه يُعَرِّفُ العبد حاجتَهُ إلى حفظه له ومعونته وصيانته، وأنَّه كالوليد الطَّفلِ؛ في حاجته إلى من يحفظُهُ ويصونُهُ، فإن لم يحفظهُ مولاهُ الحقُّ ويصونهُ ويعينهُ فهو هالكٌ ولا بدَّ، وقد مَدَّتِ الشياطينُ أيديها إليه من كل جانبٍ تُريدُ تمزيق حاله كلَّهِ، وإفسادَ شأنهِ كلَّهِ، وأنَّ مولاهُ وسيِّدَهُ إن وكَلَهُ إلى نفسه وكَلَهُ إلى ضَيْعَةٍ وعَجزٍ وذنبٍ وخطيئةٍ وتفريطٍ، فهلاكُهُ أدنى إليه من شِراكِ نعلهِ. فقد أجمع العلماءُ باللهِ على أنَّ التَّوفيقَ أن لا يَكِلَ اللهُ العَبدَ إلى نفسه، وأجمعوا على أنَّ الخِذْلانَ أن يُخلَّيَ بينهُ وبين نفسه. ومنها: أنه سبحانه يستجلب من عبده بذلك ما هو من أعظم أسباب السعادة له؛ من استعاذته واستعانته به من شر نفسه، وكيد عدوه، ومن أنواع الدعاء والتضرع والابتهال والإنابة والفاقة والمحبة والرجاء والخوف، وأنواع من كمالات العبد تبلغ نحو المئة، ومنها مالا تدركه العبارة، وإنما يدرك بوجوده فيحصل للروح بذلك قرب خاص لم يكن يحصل بدون هذه الأسباب، ويجد العبد من نفسه كأنه ملقىً على باب مولاه بعد أن كان نائياً عنه، وهذا الذي أثمر له: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] ، وهو ثمرة “لله أفرح بتوبة عبده…”. وأسرار هذا الوجه يضيق عنها القلب واللسان. فكم بين عبادةِ مُدلِّ صاحبُها على ربه بعبادته، شامخٌ بأنفه؛ كلما طُلب منه أوصاف العبد قامت صور تلك الأعمال في نفسه، فحجبته عن معبوده وإلهه، وبين عبادة من قد كسر الذُل قلبه كل الكسرِ، وأحرق ما فيه من الرعونات والحماقات والخيالات، فهو لا يرى نفسه إلا مُسيئًا، كما لا يرى ربه – إلا مُحسنًا، فهو لا يرضى أن يرى نفسه طرفة عين قد كسر ازدراؤه على نفسه قلبه، وذلل لسانه وجوارحه، وطأطأ منه ما ارتفع من غيره، فقلبه واقف بين يدي ربه وقوف ناكس الرأس خاشع خاضع غاضَّ البصر خاشع الصوت هادئ الحركات، قد سجد بين يديه سجدةً إلى الممات، فلو لم يكن من ثمرة ذلك القضاء والقدر إلا هذا وحده لكفى به حكمةً، والله المستعان. ومنها: أنه سبحانه يستخرج بذلك من عبده تمام عبوديته؛ فإن تمام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاًّ لله وانقيادًا وطاعةً، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل؛ فهو ذليل لعزه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه، فإن من أحسن إليك فقد استعبدك، وصار قلبك معبدًا له وذليلا تعبد له لحاجته إليه على مدى الأنفاس في جلب كل ما ينفعه ودفع كل ما يضره. وهنا نوعان من أنواع التذلل والتعبد، لهما أثر عجيب يقتضيان من صاحبهما من الطاعة والفوز مالا يقتضيه غيرهما: أحدهما: ذُل المحبة، وهذا نوع آخر غير ما تقدم، وهو خاصة المحبة ولبها، بل روحها وقوامها وحقيقتها، وهو المراد على الحقيقة من العبد لو فطن، وهذا يستخرج من قلب المحب من أنواع التقرب والتودد والتملق والإيثار والرضا والحمد والشكر والصبر والتندم وتحمل العظائم مالا يستخرجه الخوف وحده، ولا الرجاء وحده، كما قال بعض الصحابة: إنه ليستخرج محبته من قلبي من طاعته مالا يستخرجه خوفه، أو كما قال؛ فهذا ذلُّ المحبين. الثاني: ذلُّ المعصية؛ فإذا انضاف هذا إلى هذا هناك فنيت الرسوم، وتلاشت الأنفس، واضمحلت القلوب، وبطلت الدعاوى جملة، وذهبت الرعونات، وطاحت الشطحات، ومحيي من القلب واللسان: أنا وأنا، واستراح المسكين من شكاوى الصدود والإعراض والهجر وتجرد الشهود، فلم يبق إلا شهود العز والجلال الشهود المحض الذي تفرد به ذو الجلال والإكرام الذي لا يشاركه أحد من خلقه في ذرة من ذراته، وشهود الذل والفقر المحض من جميع الوجوه بكل اعتبار، فيشهد غاية ذله وانكساره، وعزة محبوبه وجلاله، وعظمته وقدرته وغناه. فإذا تجرد له هذان الشهودان ولم يبق ذرَّةٌ من ذرات الذُّل والفقر والضرورة إلى ربه إلا شاهدها فيه بالفعل، وقد شهد مقابلها هناك، فلله أي مقام أقيم فيه هذا القلب إذ ذاك؟ وأي قرب حظي به؟ وأي نعيم أدركه؟ وأي روح باشره؟ فتأمل الآن موقع الكسرة التي حصلت له بالمعصية في هذا الموطن ما أعجبها! وما أعظم موقعها! كيف جاءت فمحقت من نفسه الدعاوي والرعونات وأنواع الأماني الباطلة، ثم أوجبت له الحياء والخجل من صالح ما عمل، ثم أوجبت له استكثار قليل ما يرد عليه من ربه – لعلمه بأن قدره اصغر من ذلك، وأنه لا يستحقه – واستقلال أمثال الجبال من عمله الصالح بأن سيئاته وذنوبه تحتاج من المكفرات والماحيات إلى أعظم من هذا، فهو لا يزال محسنًا وعند نفسه المسيء المذنب منكسرًا ذليلًا خاضعًا، لا يرتفع له رأس، ولا ينقام له صدر، وإنما ساقه إلى هذا الذل – والذي أورثه إياه – مباشرة الذنب، فأي شيء انفع له من هذا الدواء؟! لعل عتبك محمودٌ عواقبهُ *** وربما صحَّت الأجسام بالعِلَلِ ونكتةُ هذا الوجه أن العبد متى شهد صلاحهُ واستقامتهُ شمخ بأنفه وتعاظمت نفسه، وظن أنه… وأنه… فإذا اُبتلى بالذنب تصاغرت إليه نفسه، وذل وخضع وتيقن أنه… وأنه… . ومنها: أن العبد يعرف حقيقة نفسه، وأنها الظالمة، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه، إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير وعلم وهدى وإنابةٍ وتقوىً فهو من ربها تعالى، هو الذي زكَّاها به، وأعطاها إيَّاه، لا منها، فإذا لم يشأ تزكية العبد تركه مع دواعي ظلمه وجهله، فهو تعالى الذي يُزكِّى من يشاءُ من النفوس، فتزكو وتأتي بأنواع الخير والبر، ويترك تزكية من يشاء منها فتأتي بأنواع الشر والخبث. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم آت نفسي تقواها، وزكَّها أنت خير من زكَّاها أنت وليَّها ومولاها» [رواه مسلم:2722]. فإذا ابتلى اللهُ العبدَ بالذنب عرف نفسه ونقصها، فرُتِّبَ له على ذلك التعريف حِكَمٌ ومصالح عديدة، منها أنه يأنف من نقصها ويجتهد في كمالها. ومنها أنه يعلم فقرها دائمًا إلى من يتولاها ويحفظها. ومنها: تعريفه سبحانه عبده سعة حلمه، وكرمهُ في ستره عليه، وأنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده، فلم يطب له معهم عيش أبدًا، ولكن جلله بستره، وغشَّاهُ بحلمه، وقيَّض له من يحفظه وهو في حالته تلك، بل كان شاهداً وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، وهو مع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام. وقد جاء في بعض الآثار:” يقول الله تعالى: أنا الجواد الكريم، من أعظم مني جودًا وكرما، عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلوهم في منازلهم”؛ فأي حلم أعظم من هذا الحلم؟! وأي كرم أوسع من هذا الكرم؟ فلولا حلمهُ وكرمهُ ومغفرتهُ لما استقرت السمواتُ والارضُ في أماكنها. وتأمل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، هذه الآيةُ تقتضي الحلم والمغفرة، فلولا حلمه ومغفرته لزالتا عن أماكنهما، ومن هذا قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:90]. ومنها: تعريفه عبده أنه لا سبيل له إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته، وأنه رهينٌ بحقه، فإن لم يتغمَّدهُ بعفوه ومغفرته و إلا فهو من الهالكين لا محالة، فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو محتاجٌ إلى عفوه ومغفرته، كما هو مُحتاجٌ إلى فضله ورحمته. ومنها: تعريفه عبده كرمه سبحانه في قبول توبته ومغفرته له على ظُلمه وإساءته، فهو الذي جاد عليه بأن وفقه للتوبة، وألهمه إياها، ثم قبلها منه فتاب عليه أولًا وآخرًا، فتوبة العبد محفوفةٌ بتوبة قبلها عليه من الله إذْنًا وتوفيقًا، وتوبةٍ ثانيةٍ منه عليه قبولًا ورضًا، فله الفضل في التوبة والكرم أولًا وآخرًا لا إله إلا هو. ومنها: إقامة حجة عدله على عبده ليعلم العبد أن لله عليه الحُجة البالغة، فإذا أصابهُ ما أصابهُ من المكروه فلا يقال: أنَّى هذا؟ ولا: من أين أتيت؟ ولا: بأيَّ ذنب أصبتُ؟ فما أصاب العبد من مصيبة قط – دقيقة ولا جليلة – إلا بما كسبت يداهُ وما يعفو الله عنه أكثر، وما نزل بلاءٌ قط إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة. ولهذا وضع الله المصائب والبلايا والمحن رحمةً بين عباده يُكفِّرُ بها من خطاياهم، فهي من أعظم نعمه عليهم وإن كرهتها أنفسهم، ولا يدري العبد أي النعمتين عليه أعظم: نعمته عليه فيما يكرهُ؟ أو نعمته عليه فيما يحب؟ «وما يصيبُ المؤمن من همٍّ ولا وصب ولا أذىً حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه» [رواه- بنحوه – مسلم (2573)(52)]، وإذا كان للذنوب عقوبات – ولا بد – فكل ما عوقب به العبد من ذلك قبل الموت خير له مما بعده وأيسر وأسهل بكثير. ومنها: أن يُعامل العبد بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به في إساءته وزلاته وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفى عفى الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله في إساءته، ومن أغضى وتجاوز تجاوز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه. ولا تنس حال الذي قبضت الملائكة روحه، فقيل له: هل عملت خيرًا؟ هل عملت حسنة؟ قال: ما أعلمه، قيل: تذكَّر، قال: كنت أُبايعُ الناس فكنت أُنْظِرُ المُوسرَ وأتجاوز عن المُعسر، أو قال: كنت آمرُ فتياني أن يتجاوزوا في السِّكَّةِ فقال الله: نحن أحق بذلك منك، وتجاوز الله عنه. فالله عز وجل يُعاملُ العبد في ذنوبه بمثل ما يُعاملُ به العبد الناس في ذنوبهم. فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو أنفع الأشياء له. ومنها: أنه إذا عرف هذا فأحسن إلى من أساء إليه، ولم يقابله بإساءته إساءة مثلها تعرض بذلك لمثلها من ربه تعالى، وأنه سبحانه يُقابل أساءته وذنوبه بإحسانه، كما كان هو يُقابل بذلك إساءة الخلق إليه، والله أوسعُ فضلاً وأكرمُ، وأجزلُ عطاءً، فمن أحب أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان، ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعْظُم عنده إساءة الناس إليه. فليتأمل هو حاله مع الله، كيف هي؟ مع فرط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربه، وهو هكذا له. فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف يُنكرُ أن يكون الناس له بتلك المنزلة؟! ومنها: أنه يقيم معاذيرُ الخلائق، وتتَّسع رحمته لهم، ويزول عنه ذلك الحصر والضيق والانحراف وأكل بعضه بعضًا، ويستريح العُصاةُ من دعائه عليهم، وقنوته عليهم، وسؤال الله أن يخسف بهم الأرض ويسلط عليهم البلاء؛ فإنه حينئذ يرى نفسه واحدًا منهم، فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه، وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة أدخلهم معه؛ فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه، ويخاف على نفسه أكثر مما يخاف عليهم، فأين هذا من حاله الأولى وهو ناظر إليهم بعين الاحتقار والازدراء لا يجد في قلبه رحمةً لهم ولا دعوة، ولا يرجو لهم نجاةً؟ فالذنب في حق مثل هذا من أعظم أسباب رحمته، مع هذا فيُقيمُ أمر الله فيهم طاعةً لله ورحمةً بهم وإحسانًا إليهم إذ هو عين مصلحتهم، لا غلظةً ولا قُوةً ولا فظاظة. ومنها: أن يخلع صولة الطاعة من قلبه، وينزع عنه رداء الكبر والعظمة الذي ليس له، ويلبس رداء الذل والانكسار والفقر والفاقة، فلو دامت تلك الصَّولةُ والعزَّة في قلبه لخيف عليه ما هو من أعظم الآفات كما في الحديث:” لو لم تُذنبوا لخفتُ عليكم ما هو أشدُّ من ذلك؛ العُجْبَ”، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فكم بين آثار العُجْبِ والكبر وصولة الطاعة وبين آثار الذل والانكسار! كما قيل: يا آدم لا تجزع من كأس ذُلٍّ كانت سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العُجْبِ، وأُلْبستَ رداء العبودية! يا آدم لا تجزع من قولي لك: اُخرج منها، فلك خلقتُها، ولكن انزل إلى دار المجاهدة وابذر بذر العبودية، فإذا كَمُلَ الزرع واستحصد فتعال فاستوفه. لا يوحشنَّك ذاك العَتْبُ إنِّ لهُ *** لُطفاً يُريك الرِّضا في حالة الغضب فبينما هو لابسٌ ثوب الإذلال الذي لا يليقُ بمثله تداركه ربُّهُ برحمته، فنزعهُ عنه، وألبسهُ ثوب الذُّلِّ الذي لا يليق بالعبد غيرهُ فما لبس العبد ثوباً أكمل عليه ولا أحسن ولا أبهى من ثوب العبودية، وهو ثوب المذلَّة الذي لا عزَّ له بغيره. ومنها: إن لله عز وجل على القلوب أنواعًا من العبودية؛ من الخشية والخوف والإشفاق وتوابعها؛ من المحبة والإنابة وابتغاء الوسيلة إليه وتوابعها. وهذه العبوديات لها أسبابٌ تهيجها وتبعث عليها، فكل ما قيَّضه الربُّ تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك المهيجة له فهو من أسباب رحمته له، ورُبَّ ذنبٍ قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق والوجل والإنابة والمحبة والإيثار والفرار إلى الله مالا يهيجهُ له كثير من الطاعات! وكم من ذنب كان سببًا لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبُعده عن طرق الغيِّ! وهو بمنزلة من خلط فأحس بسوء مزاجهِ، وكان عنده أخلاطٌ مزمنةٌ قاتلةٌ وهو لا يشعر بها، فشرب دواءً أزال تلك الأخلاط العفنة التي لو دامت لترامت به إلى الفساد والعطب، وإن من تبلغ رحمته ولطفه وبرُّهُ بعبده هذا المبلغ وما هو أعجبُ وألطفُ منهُ لحقيقٌ بان يكون الحبُّ كلُّهُ له، والطَّاعاتُ كلُّها له، وأن يُذكر فلا يُنسى، ويُطاعَ فلا يُعصى ويُشكر فلا يُكفر. ومنها: أنه يعرِّف العبدُ مقدار نعمته مُعافاته وفضله في توفيقه له وحفظه إياه؛ فإنه من تربَّى في العافية لا يعلمُ ما يُقاسيه المُبتلى، ولا يعرف مقدار النعمة، فلو عرف أهلُ طاعة الله أنَّهُم هم المُنعَمُ عليهم في الحقيقة، وأن لله عليهم من الشُّكر أضعاف ما على غيرهم – وإن توسَّدوا التُّراب ومضغوا الحصى – فهم أهلُ النَّعمة المُطلقة، وأن من خلَّى الله بينهُ وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه، وان ذلك ليس من كرامته على ربه – وإن وسَّع الله عليه في الدنيا ومد له من أسبابها – فإنهم أهل الابتلاء على الحقيقة. فإذا طالبت العبد نفسُهُ بما تُطالبهُ من الحُظوظ والأقسام وأرتهُ أنه في بليَّةُ وضائقةٍ تدَارَكَهُ الله برحمته، وابتلاهُ ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المُعافاة والنَّعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبتهُ نفسه من الحُظوظ، فحينئذٍ يكونُ أكثرُ أمانيه وآماله العود إلى حالة وأن يُمتعهُ الله بعافيته. ومنها: أن التَّوبة تُوجبُ للتائب آثارًا عجيبةً من المعاملة التي لا تحصلُ بدونها، فتُوجبُ لهُ من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أُخر، فإنه إذا تاب إلى الله قَبِلَ الله توبته فرتب له على ذلك القبول أنواعًا من النعم لا يهتدي العبدُ لتفاصيلها، بل يزالُ يتقلَّبُ في بركتها وآثارها ما لم يُنقضها ويُفسدها. ومنها: أن الله سبحانه يُحبَّهُ ويفرحُ بتوبته أعظم فرح؛ وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل؛ فلا ينسى الفرحة التي يظفرُ بها عند التوبة النصوح. وتأمل كيف تجدُ القلب حيًا فرحًا وأنت لا تدري سبب ذلك الفرح ما هو، وهذا أمرٌ لا يُحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأما ميَّتُ القلب فإنما يجدُ الفرح عند ظفره بالذنب، ولا يعرفُ فرحًا غيره. فوازن إذًا بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعقبُه فرحُ الظَّفر بالذنب من أنواع الأحزان والهُموم ولغُموم والمصائب؛ فمن يشتري فرحةَ ساعةً بغمِّ الأبد؟ وانظر ما يُعقبُهُ فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصُوح من الانشراح الدائم، والنعيم، وطيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اختر ما يليق بك ويناسبُك! وكلٌّ يعملُ على شاكلته، وكلُّ امرئٍ يصبو إلى ما يُناسبُه. ومنها: أنه إذا شهد ذُنوبهُ ومعاصيهُ وتفريطهُ في حقِّ ربه استكثر القليل من نعم ربه عليه، ولا قليل منه؛ لعلمه أن الواصل إليه فيها كثيرٌ على مُسيءٍ مثله، واستقلَّ الكثير من عمله لعلمه بأن الذي ينبغي أن يغسل به نجاستهُ وأوضارهُ وأوساخه أضعافُ ما يأتي به، فهو دائمًا مستقلٌ لعلمه كائنا ما كان، مستكثرٌ لنعمة الله عليه وإن دقَّت. وقد تقدم التَّنبيهُ على هذا الوجه، وهو من ألطف الوجوه، فعليك بمُراعاته، فله تأثيرٌ عجيبٌ. ولو لم يكن في فوائد الذنب إلا هذا لكفى به، فأين حالُ هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى أنه كان ينبغي أن يُعطي ما هو فوقها وأجلَّ منها! وانُّهُ لا يقدر أن يتكلم؟ وكيف يُعاندُ القدر وهو مظلومٌ مع الربِّ لا يُنصفهُ ولا يُعطيه مرتبتهُ، بل هو مُغرىً بُمعاندته لفضله وكماله، وأنه كان ينبغي له أن ينال الثُّريَّا ويطأ بأخمصهِ هُنالك، ولكنَّهُ مظلومٌ مبخوسُ الحظَّ! وهذا الضَّربُ من أبغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتًا عندهُ، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سفالٍ، فهم بين عتبٍ على الخالق، وشكوى لهُ، وذُلٍّ لخلقه، وحاجة إليهم، وخدمةٍ لهم، أشغلُ الناس قلوبًا بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغُسالة أيديهم وأوساخهم، وأفرغُ الناس قلوبًا عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذذ بمُناجاته، والطُّمأنينة بذكره، وقُرِّة العين بخشيته والرضاء به. فعياذًا بالله من زوال نعمته وتحوُّل عافيته، وفجأة نقمته، ومن جميع سخطه. ومنها: أن الذنب يُوجبُ لصاحبه التقُّيظَ والتَّحرُّز من مصائد عدوَّه ومكامنه، ومن أين يدخُلُ عليه اللصوص والقُطَّاع ومكامنهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أي وقت يخرجون، فهو قد استعدَّ لهم وتأهب، وعرف بماذا يستدفعُ شرهم وكيدهم فلو أنه مرَّ عليهم على غرة وطمأنينه لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحوه جملةً. ومنها: أنَّ القلب يكونُ ذاهلًا عن عدوه مُعرضًا عنه، مشتغلًا ببعض مهماته، فإذا أصابهُ سهمٌ من عدوه استُجمعت له قوته وحاسته وحميته، وطلب بثأره إن كان قلبه حُرًا كريمًا، كالرجل الشجاع إذا جُرح؛ فإنه لا يقومُ له شيءٌ، بل تراه بعدها هائجًا طالبًا مقدامًا، والقلب الجبان المهين إذا جرح كالرجل الضعيف المهين إذا جرح ولَّى هاربًا والجراحاتُ في أكتافه، وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يُطاق. فلا خير فيمن لا مُروءة له بطلب أخذ ثأره من أعدى عدوه، فما شيءٌ أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان، فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ، وأضناه، كما جاء عن بعض السلف: إن المؤمن ليُنضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيرهُ في سفره. ومنها: أن مثل هذا يصيرُ كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطبيب الذي عرف المرض مباشرة وعرف دواءهُ وعلاجه أحذقُ واخبرُ من الطبيب الذي إنما عرفه وصفًا، هذا في أمراض الأبدان؛ وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها، وهذا معنى قول بعض الصوفية: اعرفُ الناس بالآفات أكثرهم آفاتٍ! وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: إنما تُنقضُ عُرى الإسلام عُروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله، وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبةً فيه، ومحبة له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا من خلافهِ؛ لكمال علمهم بضدَّه، فجاءهم الإسلامُ كل خصلة منه مضادة لكل خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبًَّا، وفيه جهادًا؛ بمعرفتهم بضدَّه، وذلك بمنزلة من كان في حصرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووحشةٍ، فقيَّض الله له من نقلهُ منه إلى فضاءٍ وسعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغنىً وبهجةٍ ومسرَّةٍ، فإنه يزدادُ سُرورُهُ وغبطتهُ ومحبتهُ بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه. وليس حالُ هذا كمن ولد في الأمن والعافية والغنى والسرور، فإنه لم يشعر بغيره، وربَّما قُيَّضت له أسبابٌ تخرجهُ عن ذلك إلى ضدَّه وهو لا يشعر، وربَّما ظن أن كثيرًا من أسباب الهلاك والعَطَبِ تُفضي به إلى السلامة والأمن والعافية، فيكونُ هلاكهُ على يدي نفسه وهو لا يشعر. وما أكثر هذا الضَّرب من الناس! فإذا عرف الضَّدَّين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل كان أحرى أن تدُوم له النعمة ما لم يؤثر أسباب زوالها على علم، وفي مثل هذا قال القائل: عرفتُ الشرَّ لا لِلشرَّ لكن لتوقِّيهِ *** ومن لا يعرفُ الشرَّ من الناس يقع فيه وهذه حالُ المؤمن! يكون فطنًا حاذقًا، أعرف الناس بالشرَّ، وأبعدهم منه، فإذا تكلَّم في الشرَّ وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويَّتهُ رأيتهُ من أبرَّ الناس. والمقصود أن من بُلىَ بالآفات صار من أعرف الناس بطُرُقِها، وأمكنه أن يَسُدَّها على نفسه وعلى من استنصحهُ من الناس ومن لم يستنصحهُ. ومنها: أنه سبحانه يُذيقُ عبده ألم الحجاب عنه والبعد وزوال ذلك الأُنس والقُرب؛ ليمتحن عبده، فإن أقام على الرضا بهذه الحال ولم يجد نفسه تطالبُهُ حالها الأول مع الله بل اطمأنت وسكنَتْ إلى غيره: عَلِمَ أنه لا يصلُحُ، فوضعه في مرتبته التي تليق به، وإن استغاث استغاثة الملهوف وتفلق تفلق المكروب، ودعا دعاء المضطر، وعلم أنه قد فأتتهُ حياتهُ حقاً فهو يهتف بربه أن يرد عليه حياتهُ ويعيد عليه مالا حياة له بدونه: علم أنه موضع لما أُهل له، فرد عليه أحوج ما هو إليه، فعظمت به فرحته، وكمُلت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقدارهُ فعض عليه بالنواجذ وثنى عليه الخناصر، وكان حاله كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهلكة إذا وجدها بعد مُعاينة الهلاك. فما أعظم موقع ذلك الوجدان عنده! ولله أسرارٌ وحكمٌ ومُنبَّهاتٌ وتعريفاتٌ لا تنالها عقولُ البشر. فَقُل لِغَليظِ القلبِ وَيْحَكَ ليسَ ذا *** بِعشّك فادْرُجْ طالباً عُشَّكَ البالي ولا تَـكُ مِمَّن مدَّ باعاً إلى جَنَىً *** فَقَصَّرَ عـنهُ قالَ ذا ليسَ بالحالي فالعبدُ إذا بُلى بعد الأنس بالوحشة، وبعد القُرب بنار البعاد اشتاقت نفسُه إلى لذَّةِ تلك المُعاملةِ، فحنَّت وأنَّت وتصدَّعت وتعرَّضت لنفحات من ليس لها منهُ عوضٌ أبدًا، ولا سيَّما إذا تذكرت بِرَّهُ ولُطفه وحنانه وقُربَهُ، فإن هذه الذكرى تمنعُها القرار وتهيَّج منها البلابل، كما قال القائل- وقد فاته طواف الوادع فركب الأخطار ورجع إليه-: ولَمَّا تَذكَّرْتُ المنازلَ بالحِمى *** ولمَ يُقْضَ لي تَسليمةُ المُتزوَّدِ تَيَقَّنْتُ أنَّ العَيشَ ليسَ بِنافعي *** إذا أنا لَم انظُر إليها بموعـدِ وإن استمر إعراضُها ولم تحن إلى معهدها الأول، ولم تُحِسَّ بفاقتها الشديدة وضرورتها إلى مراجعة قُرْبِها من ربها؛ فهي ممن إذا غاب لم يُطلب، وإذا ابق لم يُسترجع، وإذا جنى لم يُستَعتَبْ. وهذه هي النُّفوسُ التي لم تُؤهَّل لما هنالك. وبحسب المعرض هذا الحرمانُ، فإنَّهُ يكفيه، وذلك ذنبٌ عقابهُ فيه. ومنها: أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوَّتان فيه بمنزلة صفاته الذاتية، لا ينفكُّ عنهما، وبهما وقعت المحِنَةُ والابتلاءُ، وعُرِّض لنيل الدرجات العُلى، واللَّحاق بالرَّفيق الأعلى، والهُبوط إلى أسفل سافلين. فهاتان القوَّتان لا يدعان العبد حتى يُنيلانه منازل الأبرار أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، ولن يجعل الله من شهوتُهُ مصروفة إلى ما أعد له في دار النعيم، وغضبُهُ حميَّةٌ لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، كمن جعل شهوتُهُ مصروفةٌ في هواه وأمانيه العاجلة، وغضبُهُ مقصورٌ على حظه، ولو انْتُهِكَ محارمُ الله وحدوده وعطلت شرائعه وسننه بعد أن يكون هو ملحوظاً بعين الاحترام والتعظيم والتوقير ونفوذ الكلمة! وهذه حالُ أكثر الرؤساء – أعاذنا الله منها – فلن يجعل الله هذين الصنفين في دارٍ واحدةٍ، فهذا ركض بشهوته وغضبه إلى أعلى علَّيَّين، وهذا هوى بهما إلى أسفل سافلين. والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوَّتين أثره، فلا بدَّ من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، فلا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانًا، بل كان ملكًا، فالترتب من موجبات الإنسانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون» [رواه أحمد:(3/244)] ، فأما من اكتنفته العصمة، وضُربت عليه سُرادِقاتُ الحفظ فهم أقل أفراد النوع الإنساني، وهم خلاصته ولبه. ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا أنساه رؤية طاعاته، ورفعها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلى بالذنب جعله نُصْبَ عينيه، ونسى طاعاته، وجعل همَّهُ كله بذنبه، فلا يزالُ ذنبه أمامه إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكون هذا عين الرحمة في حقه، كما قال بعض السلف:” إن العبد ليعمل الذنب فيدخُلُ به الجنَّة، ويعملُ الحسنة فيدخلُ بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعملُ الخطيئة فلا تزال نُصب عينيه كلما ذكرها بكى وندم وتاب”، واستغفر وتضرع، وأناب إلى الله، وذل له وانكسر، وعمل لها أعمالًا فتكون سبب الرحمة في حقه، ويعملُ الحسنة فلا تزالُ نُصْبَ عينيه يمُنُّ بها ويراها ويعتدُّها على ربه وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يُعظّمونهُ ويُكرمونهُ ويُجلُّونهُ عليها، فلا تزالُ هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها، فتدخله النار. فعلامة السعادة أن تكون حسناتُ العبد خلف ظهره، وسيئاتهُ نُصْبَ عينيه. وعلامة الشقاوة أن يجعل حسناته نُصْبَ عينيه وسيئاته خلف ظهره، والله المستعان. ومنها: أن شُهود العبد ذنوبه وخطاياه توجب له أن لا يرى لنفسه على أحد فضلا، ولا له على أحد حقا، فإنه يشهد عيوب نفسه وذنوبه، فلا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويُحرم ما حرم الله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه لم يَرَ لها على الناس حقوقًا من الإكرم يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدرًا وأقل قيمة من أن يكون له بها على عباد الله حقوق يجب عليهم مراعاتها، أوله –لأجلهِ – فضلٌ يستحقُّ أن يُكرم ويعظم ويقدم لأجله، فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط فقد أحسن إليه، وبذل له مالا يستحقه، فاستراح هذا في نفسه، وأراح الناس من شكايته وغضبه على الوجود وأهله، فما أطيب عيشه! وما انعم باله! وما اقر عينه! وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق، شاكيا ترك قيامهم بحقه، ساخطا عليهم، وهم عليه أسخط؟! فسبحان من بهرت حكمته عقول العالمين . ومنها: أنه ويوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها؛ فإنه في شغل بعيب نفسه، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويلٌ لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس. هذا من علامة الشقاوة، كما أن الأول من أمارات السعادة. ومنها: أنه إذا وقع في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين، وشهد أن المصيبة واحدةٌ، والجميع مشتركون في الحاجة – بل في الضرورة – إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم، كذلك هو أيضا ينبغي أن يستغفر لأخيه المسلم، فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات. وسمعتُ شيخنا يذكره، وذكر فيه فضلًا عظيمًا لا أحفظه، وربما كان من جملة أوراده التي لا يُخل بها، وسمعته يقول: إن جعله بين السجدتين جائز، فإذا شهد العبد أن إخوانه مصابون بمثل ما أُصيب به محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه لم يمتنع من مساعدتهم إلا لفرط جهله بمغفرة الله وفضله، وحقيق بهذا أن لا يساعد فإن الجزاء من جنس العمل. وقد قال بعض السلف: إن الله لما عتب على الملائكة بسبب قولهم:{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:30]، وامتحن هاروت وماروت بما امتحنهما به جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبني آدم وتدعو الله لهم. ومنها: أنه إذا شهد نفسه مع ربه مسيئًا خاطئًا مفرطًا، مع فرط إحسان الله إليه في كل طرفة عين، وبره، به ودفعه عنه، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه نفسًا واحدًا، وهذه حاله معه، فكيف يطمع أن يكون الناس معه كما يحب، وأن يعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد ولا يعصونه لا يخلون بحقوقه وهو مع ربه ليس كذلك؟ وهذا يوجب له أن يستغفر لِمُسيئهم، ويعفو عنه، ويسامحه، ويُغْضي عن الاستقصاء في طلب حقه. فهذه الآثار ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كونه رحمة في حقه، ومن اجتنى منه أضدادها وأوجبت له خلاف ما ذكرناه فهي – والله – علامة الشقاوة، وأنه من هوانه على الله وسقوطه من عينه خلى بينه وبين معاصيه ليقيم عليه حجة عدله، فيعاقبه باستحقاقه. وتتداعى السيئات في حق مثل هذا، وتتألف، فيتولد من الذنب الواحد ما شاء الله من المتآلف والمعاطب التي يهوى بها في دركات العذاب، والمصيبة كل المصيبة الذنب يتولد من الذنب، ثم يتولد من الاثنين ثالثٌ ثم تقوى الثلاثة فتوجب رابعًا، وهلم جرا. ومن لم يكن له فقه نفسي في هذا الباب هلك من حيث لا يشعر؛ فالحسنات والسيئات آخذ بعضها برقاب بعض، يتلو بعضها بعضا، ويُثمِرُ بعضها بعض قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقاب السيئة السيئة بعدها. وهذا اظهر عند الناس من أن تضرب له الأمثال وتطلب له الشواهد، والله المستعان.

شروط التوبة النصوح من الزنا

الزنا لغةً يطلق على الضيق، فيقال للحاقن زنّاء؛ لأنه يضيق ببوله، ويطلق كذلك على الرقي على الشيء زنا، ومنه زنا على الجبل؛ أي صعد، ويطلق الزنا على ما دون مباشرة المرأة الأجنبية، أمّا في الاصطلاح فقد عرّفه الحنفية بتعريفاتٍ عديدةٍ؛ أشهرها أنّه الوطء في القُبل الخالي من المِلك، أمّا المالكية فعرّفوه بأنّه وطء المسلم المكلّف فرج آدميٍ عمداً دون أن يكون له مِلكٌ فيه، ويعرّف عند الشافعية بأنّه إيلاج الفرج في الفرج المحرّم قطعاً، وعند الحنابلة فهو فعل الفاحشة في الدُبر أو القُبل، أو تغييب الحشفة في القُبل المحرّم تحريماً محضاً أو في الدُبر.[١] شروط التوبة من الزنا يتوب الزاني إلى الله ممّا فعل بالتوجّه الصادق إليه واستغفاره، كما يتوجّب عليه العزم على عدم الرجوع إلى ذلك الذنب مرةً أخرى، وبعض أهل العلم تشددّوا في توبة الزاني وذكروا أن يطلب المسامحة من أهل من وقع الزنا بها؛ وذلك لأنّه يعد من حقوق العباد، والبعض ذهب إلى أنّ التوبة تكون بين العبد وربه، فإن تاب العبد وندم عفا الله عنه وغفر له إن شاء ذلك،[٢] وإن كانت التوبة صادقة فهي كافية لمحو ما ارتكبه من ذنوبٍ ولو كان الذنب من الكبائر ومن أعظم الذنوب، ويتوجّب على التائب الاستمرار في الأعمال الصالحة، واللجوء إلى الله والإكثار من الدعاء، والمحافظة على ما فرضه الله من عباداتٍ، والتقرّب إليه بالنوافل، والإكثار منها، والابتعاد عن رفقاء السوء، والحرص على مجالسة أهل الخير، والابتعاد عن كلّ أسباب الذنب ودواعيه، والمحافظة على غضّ البصر، والبُعد عن مواطن الاختلاط مع الرجال الأجانب، واجتناب أهل الذنب واجتناب مواطنه.[٣] علامات قبول التوبة من علامات قبول التوبة أن يكون التائب بعد التوبة أفضل ممّا كان عليه قبلها، فيتنافس في الطاعات ويسارع في فعل الخيرات، وإن كانت توبته من معصيةٍ فلا بدّ منه أن يتخلّص ويتطهّر منها، ويملىء قلبه بالخشية والخوف من الله عزّ وجلّ، مع الإكثار من الاعتذار والاستغفار على ما فعله؛ لأنّ العبد لا يتوب إلى الله حتى يتوب الله عليه.[٤] حكم الزنا يعدّ الزنا من أكبر الكبائر بعد قتل النفس والشرك بالله تعالى، ومن ارتكب الزنا وهو متزوجٌ فإثمه عند الله أشدّ من الذي ارتكبه قبل الإحصان، ومن زنى بأمرأةٍ متزوجةٍ فذنبه أشد ممّن زنى بغير المتزوجة؛ لأنّ الذنب يتضاعف إثمه كلّما زادت المفاسد المترتبة عليه،[٥] كما يعدّ الزنا من أفحش الفواحش وأقبح الذنوب وأشدّ الجرائم وأبشع المعاصي، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَـئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)،[٦][٧] كما أجمع العلماء على تحريم الزنا في جميع الملل والأديان، ولم يرد جوازه في جميع الملل والأديان.[٨] عقوبة الزنا يُعاقب الزاني في حال ثبوت الزنا عليه من الحاكم المسلم بإقامة الحد عليه بجلده مئة جلدةٍ إن كان بكراً، قال الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)،[٩] وقال بعض العلماء بتغريب الزاني البكر عن موطنه سنةً واحدةً فقط، أمّا الزاني المُحصن؛ أي الذي سبق له وطء زوجته بالزواج الصحيح؛ فيُعاقب بالرجم بالحجارة حتى الموت، ولا يختلف ذلك إن كان من وقع بالزنا رجلاً أو امرأةً، ويحدّ كلٌّ من الزاني والزانية بأشدّ الحدود والعقوبات؛ لأن الزنا جنايةً على الأعراض والأنساب.[٨] الأسباب المؤدية إلى الزنا حين حرّم الله الزنا حرّم أيضاً كلّ ما يؤدي إليه من الأسباب، ومن أعظم الأسباب المؤدية إليه:[١٠] عدم غضّ البصر، فقد أمر الله -تعالى- المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر، كما أمر المؤمنات بالحجاب والستر، حيث قال: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ).[١١] خروج النساء متعطراتٍ متبرجاتٍ، فالتبرّج بابٌ عظيمٌ يؤدي إلى الوقوع في فاحشة الزنا، حيث قال الله عزّ وجلّ: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).[١٢] اختلاط المرأة بالرجال الأجانب أو الخلوة بهم، وخاصةً الأقارب من جهة الزوج والأب؛ حيث إنّهم يتردّدون كثيراً إلى البيت، وقد يكونوا في ذات المنزل. عدم إقامة الحدود على القوي وتطبيقها فقط على الضعيف، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عليه الحَدَّ).[١٣] تأخير الشباب والشابات عن الزواج، فلا بدّ من مراعاة حالهم حيث إنّ الشهوة تزداد عندهم حال بلوغهم، فإن لم تنصرف الشهوة في الطريق الحلال قد تُصرف بالطرق المحرّمة، ممّا يؤدي إلى الخزي والعار في الدنيا والأخرة. الآثار المترتبة على الزنا تترتّب على جريمة الزنا العديد من المفاسد والشرور، يُذكر منها:[١٤] فساد المروءة وقلّة الغِيرة، وذهاب الورع والدين، وضياع الفضيلة، وقتل الحياء. ظلمة الوجه وسواده، والمقت والكآبة. ظلام القلب وزوال نوره. ملازمة الفقر. سلب صفة البر والعدل والعفة من مرتكب الزنا، وذهاب قيمته ومكانته بين الناس. ضيق الصدر. الخسارة في الآخرة. ذهاب كرامة الفتاة، ولحوق العار بها وبأهلها. ظهور العداوات والانتقام، خاصةً بين أهل المرأة والشخص الزاني. انتشار الأمراض الخطيرة، مثل: الإيدز، والسيلان، والزهري، وغيرها.

دعاء التوبة النصوح

اللَّهُمَّ يا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ الْواصِفِينَ، وَيا مَنْ لا يُجاوِزُهُ رَجاءُ الرَّاجِينَ، وَيا مَنْ لا يَضِيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ، وَيا مَنْ هُوَ مُنْتَهَى خَوْفِ الْعابِدِينَ، وَيا مَنْ هُوَ غايَةُ خَشْيَةِ الْمُتَّقِينَ، هَذا مَقامُ مَنْ تَداوَلَتْهُ أَيْدِي الذُّنُوبِ وَقادَتْهُ أَزِمَّةُ الْخَطايا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ، فَقَصَّرَ عَمَّا أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطاً، وَتَعاطَى ما نَهَيْتَ عَنْهُ تَعْزِيزاً، كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إِحْسانِكَ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحائِبُ الْعَمَى، أَحْصَى ما ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكَّرَ فِيما خالَفَ بِهِ رَبَّهُ، فَرَأَى كَبِيرَ عِصْيانِهِ كَبِيراً، وَجَلِيلَ مُخالَفَتِهِ جَلِيلاً، فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِلاً لَكَ، مُسْتَحْيياً مِنْكَ، وَوَجَّهَ رَغْبَتَهُ إِلَيْكَ ثِقَةً بِكَ، فَأَمَّكَ بِطَمَعِهِ يَقِيناً، وَقَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إِخْلاصاً، قَدْ خَلا طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوعٍ فِيهِ غَيْرِكَ، وَأَفْرَجَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ مِنْهُ سِواكَ، فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْكَ مُتَضَرِّعاً، وَغَمَّضَ بَصَرَهُ إِلَى الْأَرْضِ مُتَخَشِّعاً، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً، وَأَبَثَّكَ مِنْ سِرِّهِ ما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خُضُوعاً، وَعَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ ما أَنْتَ أَحْصَى لَها خُشُوعاً، وَاسْتَغاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ ما وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ، وَقَبِيحِ ما فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ، مِنْ ذُنُوبٍ أَدْبَرَتْ لَذَّاتُها فَذَهَبَتْ وَأَقامَتْ تَبِعاتِها فَلَزِمَتْ، لا يُنْكِرُ يا إِلهِي عَدْلَكَ إِنْ عاقَبْتَهُ، وَلا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَرَحِمْتَهُ، لأَنَّكَ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الَّذِي لا يَتَعاظَمُهُ غُفْرانُ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ؛ اللَّهُمَّ فَها أَنَا ذا قَدْ جِئْتُكَ مُطِيعاً لأَمْرِكَ فِيما أَمَرْتَ بِهِ مِنَ الدُّعاءِ، مُتَنَجِّزاً وَعْدَكَ فِيما وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الْإِجابَةِ، إِذْ تَقُولُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْقَنِي بِمَغْفِرَتِكَ كَما لَقَيْتُكَ بِإِقْرارِي، وَارْفَعْنِي عَنْ مَصارِعِ الذُّنُوبِ كَما وَضَعْتُ لَكَ نَفْسِي، وَاسْتُرْنِي بِسِتْرِكَ كَما تَأَنَّيْتَنِي عَنِ الْانْتِقامِ مِنِّي، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ فِي طاعَتِكَ نِيَّتِي وَأَحْكِمْ فِي عِبادَتِكَ بَصِيرَتِي، وَوَفِّقْنِي مِنَ الْأَعْمالِ لِما تَغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الْخَطايا عَنِّي، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِكَ وَمِلَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذا تَوَفَّيْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ فِي مَقامِي هَذَا مِنْ كَبائِرِ ذُنُوبِي وَصَغائِرِها، وَبَواطِنِ سَيِّئاتِي وَظَواهِرِها، وَسَوالِفِ زَلاَّتِي وَحَوادِثِها، تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَةٍ، وَلا يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَةٍ، وَقَدْ قُلْتَ يا إِلهِي فِي مُحْكَمِ كِتابِكَ إِنَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِكَ، وَتَعْفُو عَنِ السَّيّئاتِ، وَتُحِبُّ التَّوَّابِينَ فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَما وَعَدْتَ، وَاعْفُ عَنْ سَيِّئاتِي كَما ضَمِنْتَ وَأَوْجِبْ لِي مَحَبَّتَكَ كَما شَرَطْتَ، وَلَكَ يا رَبِّ شَرْطِي أَلاَّ أَعُودَ فِي مَكْرُوهِكَ، وَضَمانِي أَلاَّ أَرْجِعَ فِي مَذْمُومِكَ، وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعاصِيكَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِما عَمِلْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا عَلِمْتَ وَاصْرِفْنِي بِقُدْرَتِكَ إِلَى ما أَحْبَبْتَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيَّ تَبِعاتٌ قَدْ حَفِظْتُهُنَّ وَتَبِعاتٌ قَدْ نَسِيْتُهُنَّ، وَكُلُّهُنَّ بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنامُ، وَعِلْمِكَ الَّذِي لا يَنْسَى، فَعَوِّضْ مِنْها أَهْلَها وَاحْطُطْ عَنِّي وِزْرَها، وَخَفِّفْ عَنِّي ثِقْلَها، وَاعْصُمْنِي مِنْ أَنْ أُقارِفَ مِثْلَها، اللَّهُمَّ وَإِنَّهُ لا وَفاءَ لِي بِالتَّوْبَةِ إِلاَّ بِعِصْمَتِكَ، وَلا اسْتِمْساكَ بِي عَنِ الْخَطايا إِلاَّ عَنْ قُوَّتِكَ، فَقَوِّنِي بِقُوَّةٍ كافِيَةٍ، وَتَوَلَّنِي بِعِصْمَةٍ مانِعَةٍ، اللَّهُمَّ أَيُّما عَبْدٍ تابَ إِلَيْكَ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فَاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ وَعائِدٌ فِي ذَنْبِهِ وَخَطِيئَتِهِ، فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ كَذلِكَ، فَاجْعَلْ تَوْبَتِي هَذِهِ لا أَحْتاجُ بَعْدَها إِلَى تَوْبَةٍ، تَوْبَةً مُوْجِبَةً لِمَحْوِ ما سَلَفَ وَالسَّلامَةِ فِيما بَقِيَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ جَهْلِي وَأَسْتَوْهِبُكَ سُوءَ فِعْلِي فَاضْمُمْنِي إِلَى كَنَفِ رَحْمَتِكَ تَطَوُّلاً، وَاسْتُرْنِي بِسِتْرِ عافِيَتِكَ تَفَضُّلاً، اللَّهُمَّ وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ ما خالَفَ إِرادَتَكَ أَوْ زالَ عَنْ مَحَبَّتِكَ مِنْ خَطَراتِ قَلْبِي وَلَحَظاتِ عَيْنِي وَحِكاياتِ لِسانِي، تَوْبَةً تَسْلَمُ بِها كُلُّ جارِحَةٍ عَلَى حِيالِها مِنْ تَبِعاتِكَ وَتَأْمَنُ مِمَّا يَخافُ الْمُعْتَدُونَ مِنْ أَلِيمِ سَطَواتِكَ، اللَّهُمَّ فَارْحَمْ وَحْدَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ وَوَجِيبَ قَلْبِي مِنْ خَشْيَتِكَ، وَاضْطِرابَ أَرْكانِي مِنْ هَيْبَتِكَ، فَقَدْ أَقامَتْنِي يا رَبِّ ذُنُوبِي مَقامَ الْخِزْيِ بِفِنائِكَ فَإِنْ سَكَتُّ لَمْ يَنْطِقْ عَنِّي أَحَدٌ وَإِنْ شَفَعْتُ فَلَسْتُ بِأَهْلِ الشَّفاعَةِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَا‏لِهِ وَشَفِّعْ فِي خَطايايَ كَرَمَكَ، وَعُدْ عَلَى سَيِّئاتِي بِعَفْوِكَ، وَلا تُجْزِني جَزائِي مِنْ عُقُوبَتِكَ وَابْسُطْ عَلَيَّ طَوْلَكَ، وَجَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ، وَافْعَلْ بِي فِعْلَ عَزِيزٍ تَضَرَّعَ إِلَيْهِ عَبْدٌ ذَلِيلٌ فَرَحِمَهُ، أَوْ غَنِيٌّ تَعَرَّضَ لَهُ عَبْدٌ فَقِيرٌ فَنَعَشَهُ، اللَّهُمَّ لا خَفِيرَ لِي مِنْكَ فَلْيَخْفُرْنِي عِزُّكَ وَلا شَفِيعَ لِي إِلَيْكَ فَلْيَشْفَعْ لِي فَضْلُكَ، وَقَدْ أَوْجَلَتْنِي خَطايايَ فَلْيُؤْمِنِّي عَفْوُكَ، فَما كُلُّ ما نَطَقْتُ بِهِ عَنْ جَهْلٍ مِنِّي بِسُوءِ أَثَرِي وَلا نِسْيانٍ لِما سَبَقَ مِنْ ذَمِيمِ فِعْلِي لكِنْ لِتَسْمَعَ سَماؤُكَ وَمَنْ فِيها وَأَرْضُكَ وَمَنْ عَلَيْها، ما أَظْهَرْتُ لَكَ مِنَ النَّدَمِ وَلَجَأْتُ إِلَيْكَ فِيهِ مِنَ التَّوْبَةِ، فَلَعَلَّ بَعْصَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَرْحَمُني لِسُوءِ مَوْقِفِي أَوْ تُدْرِكُهُ الرِّقَّةُ عَلَيَّ لِسُوءِ حالِي فَيَنالَنِي مِنْهُ بِدَعْوَةٍ، هِيَ أَسْمَعُ لَدَيْكَ مِنْ دُعائِي، أَوْ شَفاعَةٍ أَوكَدُ عِنْدَكَ مِنْ شَفاعَتِي تَكُونُ بِها نَجاتِي مِنْ غَضَبِكَ وَفَوْزِي بِرِضاكَ، اللَّهُمَّ إِنْ يَكُنْ النَّدَمُ تَوْبَةً إِلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ النَّادِمِينَ، وَإِنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إِنابَةً فَأَنَا أَوَّلَ الْمُنِبِينَ، وَإِنْ يَكُنِ الْاسْتِغْفارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإِنِّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ، اللَّهُمَّ فَكَما أَمَرْتَ بِالتَّوْبَةِ وَضَمِنْتَ الْقَبُولَ، وَحَثَثْتَ عَلَى الدُّعاءِ وَوَعَدْتَ الْإِجابَةَ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَا‏لِ مُحَمَّدٍ، وَاقْبَلْ تَوْبَتِي وَلا تَرْجِعْنِي مَرْجِعَ الْخَيْبَةِ مِنْ رَحْمَتِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، وَالرَّحِيمُ لِلْخاطِئِينَ الْمُنِيِبينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَا‏لِهِ كَما هَدَيْتَنا بِهِ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَا‏لِهِ كَما اسْتَنْقَذْتَنا بِهِ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَا‏لِهِ صَلاةً تَشْفَعُ لَنا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَوْمَ الْفاقَةِ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ عَلَيْكَ يَسِيرٌ

شروط التوبة النصوح عند الشيعة

لغة: توب:‏ التاء والواو والباء كلمةٌ واحدةٌ تدلُّ على الرُّجوع. يقال‏ تَابَ‏ مِنْ ذنبه، أى رَجَعَ عنه‏ يتُوب‏ إلى اللَّه‏ تَوبةً ومَتَاباً، فهو تائب‏. والتَّوْبُ‏ التَّوبة.[1] [2]
اصطلاحا: هي الندم على المعصية، والعزم على ترك المعاودة؛ لأنَّ التوبة بذل الوسع، ولا يكون باذلا بوسعه إلاّ إذا عزم على ترك المعاودة مع ندم على السالف.[3]
التوبة في القران والسنة
التوبة في القرآن الكريم
لقد ذكرت التوبة في الكثير من الآيات القرآنية الشريفة، ومنها في سورة النساء،[4] والمائدة،[5] والأنعام،[6] والتوبة،[7] والشورى،[8] وسورة التحريم.[9]

التوبة في السنة الشريفة
إضافة للقرآن الكريم فهناك روايات كثيرة لقد ذكرت التوبة فيها، وشجعت عليها وشرحت شروطها.[1

التوبة النصوح ابن باز

من تاب توبة صادقة تاب الله عليه، ولو من الشرك، إذا تاب توبة صادقة مشتملة على الشروط الشرعية، فإن الله يتوب عليه -جل وعلا-، كما قال جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: من الآية53]، أجمع العلماء على أن المراد بالآية التائبون، من تاب تاب الله عليه، وقال النبي ﷺ: التوبة تهدم ما كان قبلها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: التوبة تجب ما كان قبلها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقال -جل وعلا-: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: من الآية31]، فبين سبحانه أن التائب مفلح، وشروطها ثلاثة:
الشرط الأول: الندم على الماضي، كونه يحزن ويندم على ما مضى منه من المعصية.
الشرط الثاني: إقلاعه منها وتركها لها خوفاً من الله وتعظيماً لله.
الشرط الثالث: العزم الصادق ألا يعود فيها، فأما يقول ندمت وهو يفعلها ما هو تائب، لا بد من الندم على الماضي والترك لها، كونه يقلع منها ويتركها، كان زنا ترك الزنا، كان سرقة تركها، كان عقوق ترك العقوق، إن كان قطيعة رحم ترك قطيعة الرحم، كان معاملة ربوية ترك المعاملة الربوية، وهكذا.
والثالث أن يعزم عازماً صادقاً ألا يعود إلى المعصية هذه، فهذه الشروط الثلاثة لا بد منها إذا تمت وتوافرات صحت التوبة، ومحى الله عنه الذنب، إلا إذا كان الذنب يتعلق بمخلوقين أو من أحد فلا بد من شرط رابع، أن يتحللهم أو يعطيهم حقوقهم، إذا كان مثلاً سرق من إنسان مال، ما تتم توبته حتى يرد المال على صاحبه، أو يتحلله منه، أو ضربه أو قطع يده، أو ما أشبه ذلك لا بد من التحلل، أو يعطيه القصاص يقتص منه.

فضائل الأعمال

السابق
دواء لافينتي lavente للحفاظ على جهاز المناعة و صحة الجلد
التالي
دواء لاكتوجين Lactogyn علاج حالات الالتهابات المتكررة مثل التهاب المهبل، وداء المبيضات، والتهاب المثانة.

اترك تعليقاً