منوعات

الشاعر حافظ إبراهيم

عصر حافظ إبراهيم

مُحمّد حافظ إبراهيم، هو من أشهر شُعراء العرب المُعاصرين عامّة ومِصر خاصّة، وهو صاحب ألقاب “شاعر النّيل” و”شاعر الشَّعب”، والذي عُدّ أحد أعضاء مدرسة الإحياء والبعث الخاصّة بالشِّعر التي اشتُهرت بانتماء العديد من الشُّعراء إليها، مثل أحمد شوقيّ، ومحمود سامي الباروديّ، وغيرهم، كما كان له صداقة قويّة مع أمير الشُّعراء أحمد شوقيّ استمرّت إلى مماته، ومن الجدير بالذِّكر أنّه تمتّع باحترام عالٍ عند من من يؤيّدونه وعند خصومه كذلك؛ فهو على الرّغم من اختلافه مع العقّاد، وخليل مطران في المذهب الشِّعري إلّا أنّهما ما كانا يُكنّان إليه إلّا كلّ تقدير وإنصاف لموقعهِ في الأدب الشِّعريّ.

مولد ونشأة الشّاعر حافظ إبراهيم

لم يكن تاريخ مولد حافظ إبراهيم معلوماً ولا حتّى في أوراقه الرّسميّة الموجودة في ملّفات خدمته، إلّا أنّه بعد أن عُيِّن في دار الكتب طُلب منه تعيين يوم مولده، فتمّ إرساله في الرّابع من شهر شباط لعام 1911م إلى لجنة طبيّة مُخوّلة للنّظر في هذه الأمور لتقدير عُمره، فكان لهم أنْ قدّروه بتسعة وثلاثين عامًا، وعلى إثر هذا التّقدير تم الإقرار بيوم مولده أن يكون في الرّابع من شهر شباط لعام 1872م، ويقول الأستاذ أحمد أمين في وِلادته على صفحة النّيل: “كان إرهاصاً لطيفاً، وإيماءً طريفاً، إذا شاء القدر إلّا بولد شاعر النّيل إلّا على صفحة النّيل”، فمن الجدير بالذِّكر أنّ حافظ إبراهيم وُلد في سفينة “ذهبية” كانت راسية على شاطئ النّيل، ووالده هو المُهندس المصريّ إبراهيم فهمي، وهو من المُهندسين الذين أشرفوا على قناطر بلدة ديروط، أمّا أمّه فهي “هانم بنت أحمد البورصه لي”، وأصلها تُركيّ من أسرة مُحافظة تُسمّى الصّروان، حيث كانت تقطُن هذه الأسرة في أحد الأحياء القديمة والشّعبيّة في مدينة القاهرة، واسمه “حيّ المغربلين”، وسُمّيت الأسرة بذلك لأنّ جدّ حافظ لأمّه كان أميناً للصرّة في موسم الحجّ.

حياة وتعليم الشّاعر حافظ إبراهيم

نشأ والد حافظ إبراهيم “إبراهيم فهمي” في بلدة ديروط التابعة لبلدان الصّعيد، وفي عام 1870م أصبح مسؤولاً مع غيره من المُهندسين المصريّين على القناطر التي تُقام على نهر النّيل، وكان قد سكن في سفينة ذهبيّة مع زوجته هانم التي فيها كان مسقط رأس حافظ إبراهيم، إلّا أنّه قد فارق الحياة وحافظ في عُمر الرّابعة، فعَمَدت أمّه إلى الانتقال به إلى مدينة القاهرة فكفله خاله الذي كان يعمل مُهندس تنظيم، فرعاه وقام بتربيته كما أنّه أرسله للالتحاق بالكُتّاب وبعد ذلك إلى المدرسة، لكنّ حافظ كان يعيش حياة مُضطّربة لأنّه كان يتنقّل بين مدارس مُختلفة حتّى التحق بآخرها وهي المدرسة الخديويّة، إلّا أنّه وفي نفس الوقت تمّ نقل خاله إلى بلدة طنطا فأخذه معه، لكنّ حافظ إبراهيم لم يلتحق بالمدرسة وهو في هذه البلدة إذ التحق بالجامع الأحمديّ بشكل غير مُنتظم، فحظي في هذا الجامع بالعديد من الدّروس التي تُشابه تلك التي تُلقى في الجامع الأزهر.

مظاهر التجديد في شعر حافظ إبراهيم

قد كنت أقول إن حافظًا يُعتبر من المدرسة التي أحيت المذاهب القديمة في الشعر، وهو من النابهين بين الذين تفوقوا في هذه المدرسة، ولكنَّ حافظًا على ذلك قد ذهب مذهبًا رأيناه في أيامها تجديدًا خطيرًا — وإذا فكرنا فيه الآن رأينا أنَّه تجديد، ولكنه لم يخرج عما يصفونه بأنه إحياء للمذاهب القديمة — فكان حافظ رحمه الله من الشعراء الذين برعوا في تصوير حياة الشعب وفي تصوير الأحداث التي تعرَّض لها، في التحدث في صدق وجلاء وإخلاص عن كل ما يضطرب في نفوس الشعب من هذه الأصداء التي تتركها الأحداث الكبرى عندما تحدث فتترك في نفوس الشعب آثارها العميقة الباقية … كان حافظ من هذه الناحية يُعتبر مجددًا لأنه أنزل الشعر إلى حيث استطاع أن يصور قلوب الشعب وأذواقه وعقوله، ولكنه في حقيقة الأمر لم يبتكر شيئًا جديدًا، وإنما مضى في مذهبه ذلك ومذهب زملائه من أعضاء تلك المدرسة، وهي مدرسة إحياء المذاهب القديمة في الشعر … ذهبوا في هذا إلى أبعد مدى، وكلنا يذكر أن الشعراء القدماء — ولا سيما في العصر الإسلامي الأول — قد اتخذوا من الشعر وسيلة إلى الإعراب عن ذات نفس الشعب، فكانوا يتخذون الشعر لسانًا للسياسة ولسانًا للمشكلات الاجتماعية ولسانًا يؤدون به عن الشعب ما يعجز عن أدائه من تصوير آلامه وآماله.

كان الشعراء القدماء يذهبون هذا المذهب ثم حال التطور، وتطور نظام الحكم بنوع خاص، بين الشعر وبين أداء هذه المهمة التي تحتاج إلى شيء من الحرية — لا يمكن أن تؤدى على أحسن وجه وأكمله — عندما حِيلَ بين المسلمين أيام العباسيين وبين الحرية التي كانوا يستمتعون بها في القرن الأول — أيام بني أُمية — كان الشعراء ينصرفون عن الشعر السياسي وعن وصف آلامه، وفرغوا للملوك والأمراء والوزراء، وفرغوا للترف ولهذه الفنون الشعرية التي لا تُعرِّضهم للخطر ولا تُعرِّضهم لسخط الحاكمين، ومضت السنون على ذلك دهرًا.

فلما كان هذا العصر الحديث، وجَعَلَ الشعراء المصريون الذين عادوا بالشعر إلى مذاهبه الأولى يردون الشعر إلى أصوله القديمة، ذهبوا أولًا إلى إحياء الأسلوب وجزالة اللفظ وارتفعوا به وبالمعاني إلى حيث كان الشعراء القدماء يرتفعون به، ثم أحسوا شيئًا من حرية لم يكن غيرهم من الشعراء يحس بها في البلاد العربية الأخرى، أحسوا هذه الحرية فانطلقت ألسنتهم بما لم يُتَح لألسنة الشعراء في البلاد العربية الأخرى أن تنطلق به، وأدَّوْا عن الشعب ما كان يريد أن يؤديه من الإعراب عن ذات نفسه وعن ضيقه بالاحتلال وضيقه بالظلم وطموحه إلى حياة كريمة حرة.

كان حافظ إذن في هذه الناحية من تجديده مجددًا محافظًا في وقتٍ واحد؛ يجدد بالقياس إلى ما أَلِفَتْه مصر وألفته البلاد العربية أثناء القرون الطوال من هذا الخمول ومن هذا الخوف الذي كان يمنعه من الإعراب عن ذات نفسه، فكان تحدُّثه في السياسة وتحدُّث غيره من الذين عاصروه، كان كل هذا جديدًا بالقياس لهذه القرون الطوال … ولكن في الوقت نفسه لم يكن جديدًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما كان رجوعًا إلى المذاهب القديمة، ومع ذلك فقد امتاز حافظ بأنه عرف كيف يلائم بين رصانة الشعر العربي وما ينبغي له من الجزالة وما ينبغي لألفاظه من التخير ولمعانيه من الارتفاع، كيف يلائم بين هذا كله وبين هذه الآمال وهذه الآلام التي كانت تضطرب في نفوس الناس …؟ وكان الناس يؤدونها إذا لقي بعضهم بعضًا في لغتهم الشعبية السهلة، فكان حافظ يحسن الملاءمة بين هذه الروح الشعبية المصرية الخاصة وبين هذا الفن الرصين الجزل الذي ورثناه عن العرب القدماء.

ومن هذا يمكن أن نعتبر حافظًا فاتح هذا الطريق أمام الشعراء المعاصرين، فهو كان في هذا أصدق لهجة من شوقي، ولا سيما في المراحل الأولى لحياة شوقي.

كان صادق اللهجة؛ لأنه كان يلقى الناس، يتحدث إليهم ويجالسهم ويرى نفسه واحدًا منهم بل يرى نفسه واحدًا من أوسطهم، وربما رأى نفسه واحدًا من طبقاتهم الدنيا؛ ذلك لأنه عاش البؤس وعاشره فأطال عشرته، وخالط فقراء الناس سواء من كان منهم أديبًا كإمام العبد وأمثاله ومن لم يكن، من هؤلاء الناس الذين كان يجلس إليهم يحدثهم في ندواتهم وقهواتهم وفي الطرقات وفي الشارع … وكان حافظ سخي النفس بأوسع معاني هذه الكلمة، فكان يجود بمودته وبعطفه كما كان يجود بما يمكن أن يتاح له من المال على كل من يلتمس عنده معونة أو مودة أو عطفًا أو إحسانًا، وقد حدثني من رأى حافظًا ذات يوم وهو يسعى في بعض طرقات القاهرة فأدركه فقير يلتمس الصدقة ودفع حافظ له شيئًا من نقود ومضى، وإذا الفقير يَجِدُّ في إثره ويستوقفه ويرد له ما دفع لأنه ألقى في يده قطعة من ذهب، فأبى حافظ أن يسترد منه هذه القطعة ومضى، وقال للذين كانوا يرافقونه لقد سقط إليَّ هذا الذهب من قوم هم أغنى مني فلا أقل من أن أجود ببعض ما جاد به عليَّ الأغنياء، هذا يصور لكم نفسية حافظ، ويصور لكم أنه لم يَرَ نفسه قط فوق الشعب وإنما رأى نفسه واحدًا من هؤلاء الناس، فكان من هذه الناحية أصدق شعرائنا المعاصرين لهجة إذا تحدَّث عن آلام الشعب وآماله وأمانيه.

وهو من هذه الناحية مجدِّد بالمعنى الدقيق؛ لأن الصدق عند الشعراء من الأشياء التي لا تكاد تُدرك عندما يحاول الشعراء أن يعبِّروا عن نفوس غيرهم … والشاعر يصدق كثيرًا عندما يصف آلامه هو، وعندما يصف أمانيه، وعندما يعرب عن ذات نفسه هو … وليس من شك في أن حافظًا عندما كان يصور آلام الشعب ويصور هذه الأحداث التي كانت تؤذيه إنما كان يصورها لا لأنها كانت آلامه … وكانت لا تؤذيه هو وإنما تؤذي غيره من أواسط الناس ومن أقلهم شأنًا وأهونهم خطرًا، ومع ذلك وبرغم هذا كله لم يكن حافظ يخرج عن هذه الطريقة القديمة المألوفة، وكان حافظ يسحر الناس بشعره، ولكنه كان يسحرهم أيضًا بمودته وقربه منهم وتَلَفُّتِهِ لهم، ثم كان يسحرهم بصوته وإلقاء شعره، وهذه مزية لم تُتَح لزميله وخصمه، وهو شوقي، فقد قلت إن شوقي لم يكن يُنشد شعره، وما سمعته قط يُنشد بيتًا من أبيات الشعر فكأن صوته لم يكن يساعده، وحين يريد شيئًا من ذلك كان يستعين بمنشدين لشعره إذا أُلقي في المجتمعات، على حين كان حافظ يُنشد شعره وربما فُتن الناس بإنشاده أكثر مما كان يفتنهم شعره نفسه، فقد كان يسمع شعره من الناس من يتذوقه ومن لا تؤهله مكانته لتذوُّقه وفهمه، وكانوا جميعًا يُسحرون وكانوا جميعًا يُفتنون.

فإذا أريد أن نكوِّن لأنفسنا صورة صادقة من حياة الشعر المصري في هذا الطور من أطوار أدبنا الحديث؛ أي في الثلث الأخير من القرن الماضي وفي الثلث الأول من هذا القرن، فقد نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إن هؤلاء الشعراء المصريين قد ردوا إلى الشعر العربي في مصر قوته ورصانته القديمتين، وأُتيح لمصر أن يكون لها حظ ضخم من الشعر وأن تتفوق على البلاد العربية الأخرى من هذه الناحية.

وليس قليلًا هذا؛ فمصر في جميع عصورها الإسلامية لم تتفوق قط في الشعر كل هذا التفوق الذي نتحدث عنه، كان التفوق في الشعر للبلاد العربية قبل الإسلام، وللعراق في العصر الإسلامي وفي العصر العباسي، وللشام في أواسط العصر العباسي، وللفُرس في وقت طويل من عصور المسلمين … ولكن الشعر في مصر كان دائمًا ضعيفًا فاترًا لا تعرفه مصر إلَّا إذا وفد عليها من خارج، أما في هذا العصر فقد استطاعت مصر أن تتفوق في هذه الناحية من الأدب، وليس هذا بالشيء القليل، وليس هذا بالشيء الذي يدفعنا إلى الغضِّ من قدْر هؤلاء الشعراء؛ لأنهم لم يصبحوا كالأوروبيين، وحسبُهم أن يكونوا أتاحوا لمصر تفوقًا في الأدب أو في ناحية من الأدب لأول مرة في تاريخ الأدب.

أغراض الشعر عند حافظ إبراهيم

أغراض الشعر وأسلوبه ومعانيه
الأغراض:
(أ) الوصف:
يعد الوصف من الأغراض الأصيلة في الشعر العربي، حيث طرقوا به كل ميدان قرب من حسهم أو إدراكهم أو قام في تصورهم، ولذا لم يكن عجيباً أن يقبل شعراء العصر الحديث عليه أكثر من إقبالهم على أي غرض، فلقد وصفوا الرياض والأشجار والبحار والأنهار، وكل مظهر من مظاهر القبح والجمال أثار في نفوسهم إعجابا أو إنكارا.
وأكثر ما تجد الوصف في شعر شوقي، ومطران، وأمثالهما من شعراء الجمال، من ذلك قول شوقي في وصف البحر في قصيدته الهمزية التي صدر بها الديوان.
همَتِ الفُلْكُ واحْتَواهَا الماءُ وحَدَاهاَ بِمَنْ تُقِل الرجَاءُ
ضربَ البحرُ ذو العُبابِ حَواليـْ ـها سَماءً قد أكْبرتْها السماءُ
ورأى المارقونَ من شَرَكِ الأرْ ض شِباكاً تَمُدُّها الذَأْماءُ
وَجِبَالا مَوَائجاً في جِبَالٍ تَتَدَجًى كَأنها الظًلْمَاءُ
ودَوِيًا كما تأهًبَتِ الخيـ ــلُ وهاجتْ حُمَاتَهما الهيجاءُ
لجًة عند لُجةٍ عنْد أخْرى كهضاب ماجت بها البيداء
وسَفينٍ طوراً تلوحُ وحيناَ يتولى أشباحهنً الخفاء
نازِلاتِ في سيرهَا صاعداتٍ كالهوادي يهزهُنَ الحداءُ
” ربً ” إِنْ شئْتَ فالفضاءُ مضِيُق وإذا شئْت فالمضيقُ فضاءُ
(ب) المدح:
وهو فن أصيل في الشعر العربي، عرفت شأنه فيما سلف، وفي مطلع الحصر الحديث سار الشعراء في مدحهم على سنن أسلافهم، وسار الممدوحون على طريق من سبقهم في إجزال الهبات والمنح ولذا بلغ الشعر في العصر الحديث منزلة حسنة، ثم إن شعراء العصر الحديث اهتموا بالمعاني السامية والصفات الحميدة، ككَرم النفس وسماحة الخلق، وكالعفة، وبعد النظرة وعمق الخبرة، والدهاء، وما إلى ذلك مما يناسب ذوق العصر ويرتاح له الممدوح.
وقامت حملات ضد شعراء المناسبات، فأخذ الآراء يتجافون عن سبيله قليلاً رغم وقوف فحول الكاتبين والناقدين في وجه تلك الحملات، ثم إن شعراء المدح قد عنوا بمدح النبي صلى الله علية وسلم فأكثروا من ذلك، حتى إنك لا تكاد تجد شاعرا إلا وله في ذلك أكثر من قصيدة، ومما يِتصل به مدح الأماكن الفاضلة مثل قصيدة شوقي في مدح الأزهر.
قمْ في فمِ الذُنْيا وحيّ الأزهرا وانثر على سمع الزًمان الجَوْهَرَا
واجعلْ مكانَ الدُّرً إِنْ فصًلْتًهُ في مدْحه خرز السماءِ النيًرَا
(جـ) الرثاء:
والرثاء أيضًا من الأغراض الأصيلة في الأدب العربي، وهو أكتر اتصالا بالمشاعر الإنسانية بعامة، ولذا نجده يزدهر في العصر الحديث أكثر منه في غيره، فلقد رثى الشعراء العلماء والزعماء والأقربين، كما رثوا المدن والدولة، مثل ما صنع الأندلسيون مثلا، إلا أنهم أكثروا من ذلك وأطالوا فيه، كصنيع شوقي في رثاء المدن التركية، ورثاء الخلافة، وقد يرثي الشخص بأكثر من قصيدة؟ كصنيع حافظ إبراهيم حين رثى الإمام محمد عبده بخمس قصائد، وقد
ينظمون الرثاء في تافه الأمور، كصنيع مطران حين رثى زهرة ذبلت فسقطت فانتهت.
ومما يلحظ في رثاء هذا العصر التفريق بين الندب والتأبين والعزاء. والتعمق في الحديث عِما يسمونه فلسفة الموت، وذلك كثير عند شوقي وبخاصة في رثائه لأبيه من مثل قوله:
يا أبي والموتُ كأس مُرَّةٌ لا تَذوقُ النفسُ منها مَرتَيْنْ
كيف كانتْ ساعة قضَيْتَها كل شيء قبْلَهَما أو بَعْدُ هَيْنْ
أشَرِبْتَ الموتَ فيها جرْعة أمْ شَربْتَ الموتَ فيها جُرْعَتَيْنْ
(د) الغزل:
وهو من الفنون التي كان لها شأن عند العرب وازداد شأنها في العصر الحديث، بل لقد وجد من الشعراء من انقطع لهذا الفن وقصر شعره عليه، مثل إسماعيل صبري، ومنهم من كان في غزله تجديد لسنن الشعر، كالتعبير عن شكوى بثه وآلام نفسه، وذلك تجده عند الرافعي في مثل قوله:
من لِلْمُحبِّ ومن يُعينُه والحبُ أهْنَؤهُ حَزِينُهْ
أنا َما عَرفْتُ سِوىَ قَسَاوَتهِ فَقُولوا كيفَ لِينهُ
إن يُقْضَ دينُ ذوي الهَوَى فَأنَاَ الذِي بَقِيَتْ دُيوُنة
قَلبِي هُوَ الذهبُ الكرِيمُ فلا يُفَارِقُه رَنينُه
ومما يلحظ في غزل أهل هذا الزمان سيطرة الألم والحزن والنظرة المتشائمة فيما نظموا وهذا كثير في شعرْ عبد الرحمن شكري، وإبراهيم ناجي.
(هـ) الفخر والحماسة:
وهذان غرضان كان لهما شأن جليل في شعر الأسلاف. أما شعراء العصر الحديث فقد انصرفوا عنهما إلى ما يسمى الشعر الوطني، وإذا فخروا فبأمجاد العرب والمسلمين، وهو كثير عند محرم وشوقي، اللهم إلا ما كان من أمر البارودي الذي فخر وحمس، لأنه كان قائداً غشى ميادين الحرب منازلا الأقران، ولذا جاء في شعره مثل قوله:
إذا استَلَّ منا سيًد غَرْبَ سَيْفِهِ تَفَزعَتِ الأفلاكُ والتفتَ الذَهرُ
(و) الهجاء:
وهو من الأغراض التي قل شأنها في هذا العصر، حيث ترفع عنها الشعراء، وبخاصة الهجاء الشخصي، اللهم إلا ما ندر، وهو متعفف في لفظه، ومنه هجاء أعداء الأمة، وأعداء الإسلام، كهجاء الاستعمار ورجاله، وهو كثير في شعر محرم وحافظ وغيرهما.
وإذا هجوا الأشخاص عابوهم بأخلاقهم وصفاتهم الخُلُقية والنفسية، كصنيع شوقي حين هجا مصطفى كمال التركي.
وقد يأتي منهم ما يخالف ذلك ولكنه يكون على سبيل التندر ومنه قول حافظ إبراهيم في هجاء كتبي:
أديمُ وجهِك يا زنديقُ لو جُعِلَتْ منه الوقايةُ والتَجَليدُ للكُتُبِ
لَمْ يَعْلُها عنكبوت أينما تُرِكَتْ ولا تُخَافُ عليها سَطْوةُ اللَهبِ
(ز) الشعر الوطني:
ويعنون به ذلك الشعر الذي يصور آلام المواطنين، وآمالهم ونظرتهم إلى المستعمرين وأعداء البلاد، ولذا نجده يمتزج ببعض شعر الهجاء، كالذي ذكرناه هناك من شعر حافظ وشوقي، ولا تكاد تجد شاعراً من أهل هذا العصر إلا وله من هذا الفن نصيب، وأشهرهم في ذلك الشيخ عبد المطلب، ومحرم، ومن أيسر قصائدهم في ذلك دالية حافظ إبراهيم [مصر تتحدث عن نفسها]، ومطلعها:
وَقَفَ الخلقُ يَنْظُروْن جَمِيعاً كَيْفَ أبْني قَوَاعِدَ المَجْد َوَحْدِي
(ح) الشعر الاجتماعي:
ويعدونه من الأغراض الجديدة رغم وجود شيء من ذلك في أيام العباسيين ومنه ما نقرؤه في شعر المعري.
غير أن شعراء العصر الحديث قد أكثروا من نظم الشعر في أحوال المجتمع، والدعوة إلى إصلاح ما فسد من أوضاعه، فتحدثوا عن الفقر وأسبابه، وعن الخيانة لدى المهندسين والأطباء والعلماء والفقهاء وغيرهم، كما تحدثوا عن الخرافات وسيطرتها على المجتمع، ونظموه في تعليم الفتاة وبناء الجمعيات وإمدادها، وغير ذلك.
وأشهر الشعراء في ذلك حافظ إبراهيم، وأحمد الزين، وأحمد شوقي، ومنه قول حافظ في الأضرحة والتقرب إلى أربابها والشكوى من الفقر:
أحيَاؤنُا لا يُرزَقونَ بدرهمً وبألف ألفٍ تُرزَقَ الأمواتُ
مَنْ لي بِحّظِ النائمين بحُفرةٍ قَامَتْ عَلىَ أحْجَارِها ا لصَّلواتُ
(ط) الشعر التاريخي والتعليمي:
وهذا غرض نظم فيه بعض السابقين مثل، أحمد بن عبد ربه صاحب العقد، غير أن ما أتى به شعراء هذا العصر يختلف كثيراً عما كتب ابن عبد ربه وأمثاله، ذلك أن الأول أشبه بنظم العلوم، أما عند المتأخرين فإنه قد ألبس ثوباً شاعريا حسناً على نحو ما نقرؤه في ديوان ” مجد الإسلام ” لأحمد محرم، وأدول العرب وعظماء الإِسلام، لشوقي، والعمرية لَحافظ إبراهيم.
(ى)- الشعر الوجداني:
ويعنون به ذلك الشعر الذي ضمَّنه أصحابه آلام نفوسهم وآمالهم، واستودعوه همومهم وأثقال أرواحهم، فأتوا فيه بما لم يألفه- كثرة – الشعر العربي القديم ولعل هدا الاتجاه في شعر المتأخرين إنما كان نتيجة تأثرهم بالآداب الغربية التي سيطرت النظرة التشاؤمية على أكثر أشعارها حتى صاروا يجِنحون إلى البكاء ويرتاحون إلى الأنين، ومن أبرز شعراء العصر في هذا عبد الرحمن شكري، والمازني؟ وأحمد زكي أبو شادي.
(ك)- أما أجل هذه الأغراض وأسماها فإنه الشعر الديني. وقد أخرنا الحديث عنه إلى الحديث عن شعر الدعوة الإسلامية وسيأتي إن شاء الله.

حافظ إبراهيم اللغة العربية

قصيدة اللغة العربية لحافظ إبراهيم

رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي

وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي

رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني

عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي

وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي

رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً

وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ

وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني

ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي

فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني

أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي

أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً

وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ

أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً

فيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ

أيُطرِبُكُم من جانِبِ الغَربِ ناعِبٌ

يُنادي بِوَأدي في رَبيعِ حَياتي

ولو تَزْجُرونَ الطَّيرَ يوماً عَلِمتُمُ

بما تحتَه مِنْ عَثْرَة ٍ وشَتاتِ

سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِ أَعْظُماً

يَعِزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي

حَفِظْنَ وِدادِي في البِلى وحَفِظْتُه

لهُنّ بقلبٍ دائمِ الحَسَراتِ

وفاخَرْتُ أَهلَ الغَرْبِ والشرقُ مُطْرِقٌ

حَياءً بتلكَ الأَعْظُمِ النَّخِراتِ

أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً

مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناة ِ

وأسمَعُ للكُتّابِ في مِصرَ ضَجّة ً

فأعلَمُ أنّ الصَّائحِين نُعاتي

أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُ

إلى لغة ٍ لمْ تتّصلِ برواة

ِ سَرَتْ لُوثَة ُ الافْرَنجِ فيها كمَا سَرَى

لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ

فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعة ً

مشكَّلة َ الأَلوانِ مُختلفاتِ

إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ

بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي

فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى

وتُنبِتُ في تلك الرُّمُوسِ رُفاتي

وإمّا مَماتٌ لا قيامَة َ

بَعدَهُ مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يُقَسْ بمماتِ

شعر حافظ إبراهيم عن المرأة

الأم مدرســــــة إذا أعددتَها — أعددْتَ شعباً طيب الأعراق
من لي بتربية النساء فإنها — في الشرق علة ذلك الإخفاق
فالناس هذا حظه مال وذا — علمٌ وذاك مكارم الأخلاق
فالمال إن لم تدّخره محصّناً — بالعلم كان نهاية الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل — تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبنّ العلم ينفع وحدَه — ما لم يُتوّج ربـُّه بخلاق

حافظ إبراهيم واحمد شوقي

* حافظ ابراهيم و احمد شوقي
كان يطيب للشاعر حافظ إبراهيم، شاعر النيل، أن يداعب احمد شوقي، أمير الشعراء. وكان احمد شوقي جارحا في رده على الدعابة. ففي إحدى ليالي السمر انشد حافظ إبراهيم هذا البيت: ليستحث شوقي على الخروج عن رزانته المعهوده

يقولون إن الشوق نار ولوعة …. فما بال شوقي اصبح اليوم باردا
فرد عليه احمد شوقي بأبيات قارصة قال في نهايتها:
أودعت إنسانا وكلبا وديعة… فضيعها الإنسان والكلب حافظ

أحمد شوقي

أحمد شوقي هو أحد أعمدة الشعر العربي الحديث، ورائد النهضة الشعرية العربية، اعتلى عرش الشعر العربي فلُقب بأمير الشعراء عام 1927م، وكان قبل ذلك قد نُفي إلى إسبانيا في الفترة الممتدة بين عامي 1914-1919م، وحين عودته سيطر على الساحة الأدبية في مصر، وقد عُرف شوقي بغزارة إنتاجه الشعري، كما امتاز شعره بغرابة الألفاظ وسهولة الأسلوب، وكتب مسرحیات حاكى بها نماذج الشعراء الغربيين من أمثال: شكسبير، وكورني، وراسین.

نشأة وحياة الشاعر أحمد شوقي

ولد أحمد شوقي علي أحمد شوقي بك في القاهرة عام 1869م، نشأ وترعرع فيها، وقد حمل اسم جده لأبيه ولقَبُه أحمد شوقي، وانحدر الشاعر أحمد شوقي من أسرة اختلطت دماؤها بأصول خمسة، هي: الكردية، والشركسیة، والعربیة، واليونانية، والتركية، فجده لأبیه كردي الأصل تولى عدة مناصب إدارية في زمن سعيد باشا كان آخرها أمین الجمارك المصریة، وجده لأمّه تركي الأصل واسمه أحمد حليم النجدلي، وكان وكيلاً لخاصة الخديوي إسماعيل، أمّا جدته لأمّه فكانت يونانية وتعمل وصيفة في بلاط الخديوي، وقد تولّت أمر رعايته في طفولته، فنشأ في ظل القصر نشأة ارستقراطية، ما جعله يتفرغ للشعر ويخلص له، فلا يشغل باله غيره، وكان محاطاً بعناية العائلة بأكملها، لا سيما أنّه كان وحيد والديه.

تلقّى أحمد شوقي علومه الأولى في سن الرابعة في كُتَاب الشيخ صالح، وأنهى تعليمه الثانوي في سن مبكرة عام 1885م، ثمّ التحق بمدرسة الحقوق حيث درس القانون، وإلى جانبه درس ترجمة اللغة الفرنسية، وانتهى من دراسته عام 1889م، وأثناء دراسته كان يتتلمذ علوم الأدب على يدي حسين المرصفي، والشيخ حفني ناصف، والشيخ محمد البسيوني البيباني، وبعد تخرجه من مدرسة الحقوق أرسله الخديوي توفيق إلى فرنسا لإتمام دراسة الحقوق، حيث قضى أربع سنوات في مدينة باريس ومونبلييه، ثمّ عاد إلى مصر عام 1892م، ومن الجدير بالذكر أنّ شوقي كان قد تزوج من السيدة خديجة شاهين وله منها ثلاثة أبناء، هم: حسين، وأمينة، وعلي.

السابق
أنواع الحوافز
التالي
أعراض سرطان الدم

اترك تعليقاً