نال كاتبٌ شاب في عام 1971 درجة الماجستير في الصحافة من جامعة نورث ويسترن، واتخذ خلال أول 13 عاماً من حياته الكتابة مهنة كان يكسب من خلالها قوت يومه، لكن دون إحراز نجاحات بارزة؛ وقد أُطلِقَ في عام 1983 روايته الرابعة التي حملت عنوان “راية أرمجدون” (The Armageddon Rag)، والتي أخفقت إخفاقاً ذريعاً، ولم يقرأها أحد، وقد قال هو نفسه عنها: “لقد دمَّرت مسيرتي المهنية في ذلك الوقت”.
كان ذاك الكاتب يتحلى بالإصرار، وقد بحث عن طرائق للاستمرار في الكتابة، فعثر على وظيفة في كتابة النصوص التلفزيونية لصالح تلفزيون “سي بي إس” (CBS)، غير أنَّ البرنامج قد أُلغِي بعد فترة قصيرة؛ ثم تمكَّن بعد ذلك من المشاركة في سلسلة تلفزيونية أخرى مع تلفزيون “أي بي سي” (ABC)، إلَّا أنَّ المشروع أُلغِي مرة أخرى؛ وقد قرر في عام 1991 -أي بعد عقد تقريباً من التنقل من وظيفة إلى أخرى- العودة إلى كتابة الروايات من جديد.
نال الكاتب جورج ر. ر. مارتن (George R.R. Martin) الشهرة أخيراً، وقد أحرزت سلسلة رواياته التي حملت عنوان “أغنية الجليد والنار” (A Song of Ice and Fire) نِسَب مبيعات عالية، وحُوِّلت أول رواية في هذه السلسلة -التي حملت عنوان “صراع العروش” (Game of Thrones)- إلى مسلسل تلفزيوني عُرِض على تلفزيون “إتش بي أو” (HBO)، ورُشِّح الموسم الأول منه لـ 13 جائزة إيمي؛ ثم أُنتِجت 8 أجزاء من هذا المسلسل، ونال إقبالاً رهيباً وشهرة عالمية منقطعة النظير.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ليس مدى روعة الروايات، بل الطريقة التي كتب بها مارتن أعماله التي أحرزت نسب مبيعات عالية.
معالج النصوص (WordStar):
كتب مارتن إجمالاً مليونَي كلمة تقريباً في الأجزاء الخمسة الأولى فقط من السلسلة:
- الرواية الأولى: صراع العروش (Game of Thrones)؛ عدد الكلمات: 298000 كلمة.
- الرواية الثانية: صِدام الملوك (Clash of Kings)؛ عدد الكلمات: 326000 كلمة.
- الرواية الثالثة: عاصفة السيوف (Storm of Swords)؛ عدد الكلمات: 424000 كلمة.
- الرواية الرابعة: وليمة للغربان (Feast for Crows)؛ عدد الكلمات: 300000 كلمة.
- الرواية الخامسة: رقصة مع التنانين (Dance with Dragons)؛ عدد الكلمات: 422000 كلمة.
يبلغ مجموع هذه الكلمات 1770000 كلمة، وهو عمل بُذِلت فيه جهود مذهلة؛ فماذا استخدم مارتن لكتابة هذا العدد المدهش من الكلمات؟
لقد استخدم في كتابة رواياته برنامجاً لم يسمع به معظم الناس، هو “ووردستار 4.0” (WordStar 4.0)؛ وحتى تعرف مدى قِدَم البرنامج، فإليك صورة الشاشة التي تظهر عادة عند استخدامه:
يقول مارتن: “ما زلت أكتب جميع أعمالي باستخدام برنامج “وورد ستار 4.0″، وقد نصَّبته على جهاز كمبيوتر قديم يعمل بنظام دوز (DOS)؛ حيث يشبه برنامج معالجة النصوص هذا سيارات دوسنبرغ (Duesenberg)، فهو قديم جدَّاً، لكن لا نظير له؛ فأنا لا أحبذ استخدام التقنيات الحديثة، وليس لدي حساب فيسبوك أو تويتر، ولن يكون لدي حساب في منصات التواصل الاجتماعي التي ستظهر مستقبلاً وتجعل فيسبوك وتويتر يبدوان مثل تقنياتٍ أكل الدهر عليها وشرب، أو مثل تلك المجتمعات الافتراضية في الأيام الخوالي”.
التركيز والمثابرة والصبر:
من أهم الدروس التي يمكنك تعلمها في الحياة أنَّك تحتاج ثلاثة أمور بسيطة لإحراز النجاح، وهي:
- التركيز: لا يمكنك أن تكون بارعاً في كل شيء، ومن الصعب أن تكون مميزاً بأكثر من عمل واحد؛ لذا اختر العمل الذي تسعى إلى التميز فيه، وركز اهتمامك عليه.
- المثابرة: لا فائدة من التركيز إذا لم يكن مستمراً، فالتميز مرة تلو الأخرى هو ما يُحدِث فارقاً.
- الصبر: إذا ركزت اهتمامك وكنت مثابراً، فدع الوقت يعمل لصالحك؛ حيث تَظهر النتائج حينما يأتي موعد ظهورها؛ لذا ركز الاهتمام على العملية لا على الهدف.
لقد استثمر “جورج ر. ر. مارتن” إبداعه على هذه الطرائق الثلاث؛ فقد كتب رواياته باستخدام كمبيوتر غير متصل بشبكة الإنترنت أو مواقع التواصل الاجتماعي، وليس فيه تطبيقات أو صور أو أيَّ أمور يمكن أن تشتت الانتباه، بحيث يستطيع أن يؤدي مَهمَّةً واحدة هامة للغاية هي كتابة الكلمات، فهيَ مهنته وكلذُ ما يحتاج القيام به، وقد ركَّز اهتمامه تركيزاً كاملاً عليه وتخلص تماماً من أي شيء يمنعه من تحقيقه؛ وهذا هو “التركيز”.
أمَّا عن “المثابرة”، فقد عمل مارتن موظفاً في مجال الكتابة مدة 20 عاماً قبل التفرغ لكتابة “صراع العروش”، وأعدَّ برامج أُلغِيت، وبقي دون عمل، وكتب في مرحلة مبكرة روايات أخفقت على المستوى التجاري؛ وربَّما كان سيعثر على طريقة أخرى للاستمرار في الكتابة لو أنَّ روايته “أغنية الجليد والنار” قد أخفقت؛ فهو لم يركز الاهتمام على الكتابة حينما كان ذلك هيِّناً وحسب، بل ركز الاهتمام على كتابة كلمات صريحة وبسيطة.
وأمَّا عن “الصبر”، فإنَّه لمن المؤكَّد أنَّ مارتن أراد -مثل أي واحد منَّا- إحراز نجاح باهر، ونَيل شهرة على المستوى التجاري بأسرع ما يمكن؛ وربَّما أراد أن يُباع من كتابه 25 مليون نسخة، ولم يُرِد أن يحتاج 20 عاماً من العمل حتى يحرز النجاح التجاري؛ لكنَّ الفارق هو أنَّه لم يدع رغبته في إحراز نجاح سريع تثنيه عن التزامه بالعمل يومياً.
الحد الأدنى من الجهد الذي تحتاج إليه لإحراز النجاح:
قد نعتقد في كثير من الأحيان أنَّنا نحتاج إلى مزيد من الأشياء من أجل إحراز النجاح، كمزيدٍ من التمويل لشركاتنا الناشئة، وبرامج الكمبيوتر أو الأدوات للتعامل مع قوائم المهمات، وشبكة علاقات أوسع، أو مزيدٍ من الثياب أو السيارات أو البطاقات الائتمانية؛ لكنَّنا ربَّما نحتاج في الحقيقة إلى أقل ممَّا نملك، وإلى مزيد من تركيز الاهتمام؛ فقد حقق جورج مارتن مبيعات أكثر من التي حققها تقريباً أي شخص على وجه الأرض، مع العلم أنَّ الكمبيوتر الذي يستخدمه غير قادر على إرسال رسالة إلكترونية.
إنَّه لمن المحتمل جداً أنَّ التخلص من مصادر تشتيت الانتباه يُعَدُّ أفضل طريقة لاستثمار القدرات؛ فإذا علمت أنَّ القيود تثير الإبداع، فما أقل عدد من القيود تحتاج إليه لإحراز النجاح؟
