القرآن الكريم

أفكار سورة الحجرات

تفسير سورة الحجرات للقرطبي

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال العلماء: كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلقيب الناس. فالسورة في الامر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: {لا تقدموا} بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون {تُقَدِّمُوا} بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قدمه على الله تعالى، لان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.
الثانية: واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الأول- ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد.
وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.
وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ}. رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا.
الثاني- ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ذكره المهدوي أيضا.
الثالث- ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤا إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين.
وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا. الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، والله أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لان كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع.
وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. وراي سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب.
الثالثة: قوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس». فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس». فمعنى قوله: «صواحب يوسف» الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز.
وربما احتج بغات القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه. {واتقوا الله} يعني في التقدم المنهي عنه. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بفعلكم.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير. قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه: نزل قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر، لان خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في آل عمران وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر! كان يرفع صوته فوق صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: «اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة». لفظ البخاري. وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد.
وقيل: أبا عبد الرحمن. قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبد الله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما قدم وفد تميم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا *** وإذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رءوس الناس من كل معشر *** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقام حسان فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم *** يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خول من بين ظئر وخادم
في أبيات لهما. فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}.
وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: «لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير». قال: ثم أنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: «لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة». قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني أبا بكر- فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه الله، ذكره أبو عمر في الاستيعاب.
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له.
وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك.
وقيل: {لا تَجْهَرُوا لَهُ} أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه. {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض.
وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين.
وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.
الثالثة: معنى الآية الامر بتعظيم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم.
وفي قراءة ابن مسعود {لا ترفعوا بأصواتكم} وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء.
الرابعة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وكلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه.
الخامسة: وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لان ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقروا الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما كان منهم في الحرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفية يقول نابغة بني جعدة:
زجر أبي عروة السباع إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه.
السادسة: قال الزجاج: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} التقدير لان تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة، وليس قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الايمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم.

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ}
قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار. وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار.
وقال عبد الله بن الزبير: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ} ما حدث عمر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى}. قال الفراء: أي أخلصها للتقوى.
وقال الأخفش: أي اختصها للتقوى.
وقال ابن عباس: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى.
وقال عمر رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى امتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمة: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الإخلاص.
وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها *** قد محنت واضطربت آطالها
{لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.

تفسير سورة الحجرات لسيد قطب

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (Cool وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

وله نظمه التي تكفل صيانته . وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب , وتنبثق منه , وتتسق معه ; فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره , وتتلاقى شرائعه ومشاعره , وتتوازن دوافعه وزواجره ; وتتناسق أحاسيسه وخطاه , وهو يتجه ويتحرك إلى الله . . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته , لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ; ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم . بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق . كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده , كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها . بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة , والدولة بالأفراد ; وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق .

هو عالم له أدب مع الله , ومع رسول الله . يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب , والرسول الذي يبلغ عن الربSadيا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله , واتقوا الله , إن الله سميع عليم). . فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي , ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ; ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ; ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه . . تقوى منه وخشية , وحياء منه وأدبا . . وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله [ ص ] وتوقيرهSadيا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض , أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى , لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون , ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم , والله غفور رحيم). .

وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال , والاستيثاق من مصدرها , قبل الحكم عليها . يستند هذا المنهج إلى تقوى الله , وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله , في غير ما تقدم بين يديه , ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة , فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ; واعلموا أن فيكم رسول الله , لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم . ولكن الله حبب إليكم الإيمان , وزينه في قلوبكم , وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان , أولئك هم الراشدون , فضلا من الله ونعمة , والله عليم حكيم). .

وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات , تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج . وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين , ومن حقيقة العدل والإصلاح , ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ; فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ; فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا , إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة , فأصلحوا بين أخويكم , واتقوا الله لعلكم ترحمون). .

وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض ; وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ; ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ; ولا تلمزوا أنفسكم , ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم:الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون). .

وهو عالم نظيف المشاعر , مكفول الحرمات , مصون الغيبة والحضرة , لا يؤخذ فيه أحد بظنة , ولا تتبع فيه العورات , ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم , ولا تجسسوا , ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم

من الاية 29 الى آخر السورة

تقديم لسورة الحجرات

هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية , سورة جليلة ضخمة , تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة , ومن حقائق الوجود والإنسانية . حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية وآمادا بعيدة ; وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ; وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم , وقواعد التربية والتهذيب , ومبادى ء التشريع والتوجيه , ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات !

وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير .

وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة , هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة , لعالم رفيع كريم نظيف سليم ; متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ; والتي تكفل قيامه أولا , وصيانته أخيرا . . عالم يصدر عن الله , ويتجه إلى الله , ويليق أن ينتسب إلى الله . . عالم نقي القلب , نظيف المشاعر , عف اللسان , وقبل ذلك عف السريرة . . عالم له أدب مع الله , وأدب مع رسوله , وأدب مع نفسه , وأدب مع غيره . أدب في هواجس ضميره , وفي حركات جوارحه . وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه

الأفكار العامة في سورة الحجرات

سبب نزول آياتٍ من سورة الحجرات

ورد عن ابن كثير -رحمه الله- في سبب نزول قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)،[٢] أنّ النبي عندما بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط لجمع صدقات بني المصطلق، وعندما سار الوليد في طريقه رجع منه إلى الرسول، وادّعى أنّ الحارث بن ضرار الخزاعي أراد قتله، فأرسل الرسول في طلب الحارث، وعندما اجاب النداء وقدم إلى الرسول مع أصحابه، وأخبروه أنّه منع الزكاة ولم يؤدّها للوليد بن عقبة، فأنكر الوليد ذاك وبيّن بأنّ الحارث لم يأته، فنزلت الآية المذكورة آنفاً.

عِبرٌ ودلالاتٌ في سورة الحجرات

دلّت سورة الحجرات على عددٍ من الأمور المهمة للمسلم، منها:

  • قرّرت سورة الحجرات عدداً من الحقائق المتعلّقة بالإيمان والتوحيد والشريعة، إضافةً إلى حقائق في الوجود والإنسانية التي تفتح للمسلم مجالات التفكير، وترسّخ في النفس عدداً من المعاني.
  • تحدّثت السورة عن بعض القواعد المهمة في التربية، وفي تهذيب وتقويم السلوك.
  • بيّنت السورة أنّ العالِم لا بدّ منه أن يكون مؤدباً مع الله ومع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الحرص على طهارة الباطن والقلب والمشاعر واللسان.

الدروس المستفادة من سورة الحجرات

شملت سورة الحجرات على عدد كبير من التوجيهات للسلمين في التعامل بأخلاق وأدب، ومن الدروس المستفادة من سورة الحجرات:

–  نتعلم من السورة ضرورة التأكد من الأخبار قبل تناقله حتى لا تؤدي نقل الأخبار الكاذبة في ضرر لأشخاص أبرياء، فلقد وصف الله تعالى ناقل الحديث كذبا بأنه بالفسق والفساد في الأرض.

– نتعلم من سورة الحجرات ألا نسئ الظن بالناس، فقد نهى الله عن كثرة الظن،  كما نهى عن التجسس، وألا يتحدث شخص عن آخر في غيابه فقد حيث قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).

– نتعلم من سورة الحجرات مبدأ الأخوة والتفاهم بين المسلمين بعضهم بعضا، وقد أرست السورة مبدأ التسامح بين المسلمين، كي لا تتطور الخلافات بينهم.

-نتعلم من السورة الكريمة احترام كبير السن وكبير المقام، وعدم مناداته بدون ألقاب، كما نتعلم ألا تعلو أصواتنا على بعض .

– نتعلم من تلك الآيات العظيمة، المساواة بين جميع الخلق، فالله خلق الشعوب سواسية، التقوى والإيمان والعمل الصالح هم من يميزوا قوم عن قوم، كما نتعلم من سورة الحجرات عدم السخرية من الآخرين، وان تنادي الناس بأحب الألقاب إليهم.

-كما نتعلم مبدأ الإصلاح بين الجهات والأشخاص الذي بينهم خلافات، وأن نحكم بينهما بالعدل، ولكن عندما تطغى جه على الأخرى فيجب أن تحاول ارجاع هذه الفئة إلى عقلها حتى ولو بالقوة، حيث قال تعالي (إِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)

تفسير سورة الحجرات للسعدي

فوائد سورة الحجرات

فوائد السورة تتحدث السورة عن عدة مواضيع تتعلق بالآداب والأخلاق، من هذه المواضيع: أدب التعامل مع الله ورسوله، والتعامل مع الفسقة والتثبت من الأخبار، وقتال الفتنة بين المسلمين والصلح بينهم وقتال الفئة الباغية، والنهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، والنهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة، وتذكير الناس بأصلهم وأن التقوى أساس التفاضل، التفريق بين الإسلام والإيمان وبيان معنى الإيمان وأنه منة من عند الله.

السابق
لماذا سمي شهر شعبان بهذا الإسم
التالي
معلومات عامة عن دولة البرازيل

اترك تعليقاً