ديني

الفرق بين الصبر والرضا

الصبر والرضا بالقضاء والقدر

لا شكّ أن سلفنا الصالح رحمهم الله هم أهدى الناس قلوباً، يشهد بذلك كل من نظر في أحوالهم وتأمّل عباراتهم؛ وهذه الهداية جاءت عندما استقرّ الإيمان في قلوبهم، وعرفوا الله حق معرفته، وقدروه حقّ قدره، فجعل الله لهم فرقاناً يميّزون به بين الحق والباطل، وبصيرةً يُدركون بها بواطن الأمور مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. وأولئك الأخيار أدمنوا النظر والتأمّل في نصوص الوحيين، فتجلّت لهم حقائق المعاني، وتكشّفت لهم معالمُ خفيّة، ودقائق لطيفة من العلوم الشرعيّة، والحِكَم الربّانية. لِننظر سويّاً إلى إيمانهم بالقضاء والقدر كيف كان أثره على كلماتهم؟ وكيف عبّروا عنه بإشراقةِ لفظٍ، وجمال عبارةٍ، وعميق معنى، حتى صارت حِكَماً تدور على ألسنة الخلق، ويُهتدى بها إلى الحق يروي لنا زياد بن زاذان أن الإمام عمر بن عبد العزيز قال: “ما كنتُ على حال من حالات الدنيا فيسرنى أني على غيرها”، ومما حُفظ عنه قوله: “أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر”، واشتُهرت عنه دعواتٍ كان يُكثر من تردادها: “اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحب تعجيل شئ أخّرته، ولا تأخير شئ عجّلته”. ويقول خلف بن إسماعيل: “سمعتُ رجلاً مبتلى من هؤلاء الزمنى -أي من كان مرضهم مزمناً- يقول: وعزتك لو أمرت الهوام فقسمتني مُضَغاً ما ازددت لك بتوفيقك إلا صبراً، وعنك بمنّك ونعمتك إلا رضاً”، وكان الجُذام قد قطّع يديه ورجليه، وعامّة بدنه.   ويروي محمد بن أبى القاسم أن واعظاً أوذي في الله فقُطعت يداه ورجلاه؛ فكان يقول: “إلهي أصبحت في منزلة الرغائب، أنظرُ إلى العجائب، إلهي أنت تودّدُ بنعمتك إلى من يؤذيك، فكيف تودُّدك إلى من يؤذى فيك؟”.   وفي قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، يقول علقمة: “هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله، فيسلّم لها ويرضى”، وروى السري بن حسّان عن عبد الواحد بن زيد قوله: “الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين”.   ورأى علي بن أبى طالب رضي الله عنه أحد المبتلين فقال له: “يا عدي إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه فكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه فحبط عمله”.   وعن أبى مجلز أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره”.   وروى أبو هارون المديني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “إن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه جعل الرَوح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”.   وروى مكحول أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقول: “إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيتسخّط على ربه، ولا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خِير له”.   وذكر يزيد بن مرثد الهمداني أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: “ذروة الإيمان أربع: الصبر للحُكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز و جل”.   واجتمع مالك بن دينار ومحمد بن واسع فتذاكرا العيش فقال مالك: “ما شيء أفضل من أن يكون للرجل غلّة – أي أرضٌ أو زراعة – يعيش فيها”، فقال محمد: “طوبى لمن وجد غداءً ولم يجد عشاءً، ووجد عشاءً ولم يجد غداءً، وهو عن الله عز و جل راض”.   وفي تفسير قوله تعالى: وَ {بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } [الحج: 35] جاء عن سفيان قوله: “المطمئنين الراضين بقضائه، المستسلمين له”.   وروى أحمد بن أبي الحواري أن أبا سليمان كان يقول: “إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راضٍ”.   وروى حكيم بن جعفر أن أبا عبد الله البراثي قال: “لن يَرِدَ يوم القيامة أرفع درجاتٍ من الراضين عن الله عز وجل على كل حال”، وقال أيضاً: “من وهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات”.   وقال أحد العبّاد: “إن أنت رضيت بما أُعطيت؛ خفّ الحساب عليك فيما أوتيت”، وقريباً من هذا قول الحسن: “من رضى من الله بالرزق اليسير؛ رضى الله منه بالعمل القليل”.   وروي عن ابن أبى الحواري أن أبا عبد الله النباجي كان يقول: “إن أعطاك أغناك، وإن منعك أرضاك”.   وأُثر عن الإمام ابن عون قوله: “ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر؛ فإن ذلك أقل لهمّك، وأبلغ فيما تطلب من آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبؤس كرضاه عند الغناء والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك؟ ولعل ما هويت من ذلك لو وُفّق لك لكان فيه هلكتك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؟ وذلك لقلة علمك بالغيب، وكيف تستقضيه إن كنت كذلك ما أنصفت من نفسك، ولا أصبت باب الرضا”.   واستنصح بشر بن بشّار المجاشعي ثلاثةً من الصالحين فقال الأوّل: “ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك؛ فهو أحرى أن تُفرغ قلبك، ويقل همّك، وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به”، وقال الثاني: “التمس رضوانه في ترك مناهيه فهو أوصل لك إلى الزلفى لديه”، وقال الثالث: “لا تبتغِ في أمرك تدبيراً غير تدبيره؛ فتهلك فيمن هلك، وتضلّ فيمن ضلّ”.   وعن عامر بن عبد قيس قال: “ما أبالي ما فاتني من الدنيا بعد آيات في كتاب الله” يعني قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود: 6]، وقوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنعام: 17].   وحدّث الربيع بن صبيح أن الحسن كان يقول: “ارض عن الله يرضى الله عنك، وأعط الله الحق من نفسك، أما سمعت ما قال تبارك وتعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة: 100]، وجاء عنه قوله: “من رضي بما قسم الله له وسّعه، وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يوسّعه، ولم يُبارك له فيه”.   وروى شداد بن سعيد الراسبي أن غيلان بن جرير قال: “من أُعطي الرضا والتوكل والتفويض فقد كُفي”.

ما هو الرضا

يعرف الرضا عن الله بأنه عبادة قلبية لها شأن عظيم عند الله، حيث تعتبر درجة إيمانية عظيمة، تتجلّى فيها كل معاني الحب والشوق للقاء الله، والتطلّع والتّشوّق إلى رضوانه، إلا أنّ الكثير من الناس يجهلونها، ولا يصلون إلى هذه الدرجة الرفيعة، وكل ذلك عائد إلى جهلهم بالله، وعدم تقديرهم له، وفي هذا المقال سنعرفكم عن الرضا عن الله.

الصبر عند الابتلاء والرضا بالقضاء

  1. أهمية الصبر عند البلاء دلّت الشريعة المُطهّرة على أهمية الصبر وحثّت عليه، ويتجلّى هذا الاهتمام في عدّة صورٍ، منها:
  2. ذكر الله -سبحانه- للصبر في أكثر من تسعين موضعاً في كتابه العزيز. قرن الله -تعالى- بين الصبر والصلاة التي هي عمود الدين .
  3. جميع مقامات الدين مرتبطةٌ بالصبر.
  4. إخبار الله -سبحانه- أنّ جنس الإنسان في خسارةٍ، واستثنى طائفةً محددةً منّهم؛ وهم الذين يتواصون بالصبر ويُذكّرون بعضهم به.

الحكمة من الابتلاء البلاء يحمل في طياته

حِكماً عظيمةً ومقاصد جليلةً ينبغي على المؤمن أن يتذكّرها دائماً، حيث أنّه:

كفارةٌ للذنوب والخطايا. تحقيقٌ لعبودية الله -تعالى-. إعدادٌ للمسلمين حتى يقوموا بوظيفة عِمارة الأرض وحتى يُمَكَّن لهم فيها. رفعةٌ لدرجات المؤمنين في جنات النعيم. فرصةٌ لتكفير الخطايا. درسٌ في التوحيد والتعلّق بالله -تعالى-. إعانةٌ في التخلص من العُجب والكِبرِ وحب النفس. بيانٌ لحقائق الناس ومعادنهم وما جُبلوا عليه. تذكيرٌ بالذنوب؛ للتوبة منها. وسائل الصبر عند نزول البلاء هناك العديد من الوسائل التي تُعين المسلم على الصبر عند حلول البلاء به، منها:

معرفة ما يُرتّب الله -تعالى- من الأجر العظيم إذا صبر واحتسب. معرفة أثر البلاء في محو السيئات والذنوب. معرفة حقّ الله الواجب على العبد عند البلاء؛ وهو الصبر والتسليم لقضائه وإرادته. معرفة أنّ البلاء وقع بسبب ذنبه وخطيئته. معرفة المؤمن أن الله -سبحانه- قدّر هذه المصيبة عليه وارتضاها له، وأن فيها دواءً وعلاجً لأمراضه القلبية، وما من دواءٍ إلّا وهو مصحوب بشيءٍ من المرار. معرفة المؤمن أنّ البلية لم تأتِ لتُهلكه وتُنهيه؛ وإنّما أتت لتمتحن صبره وثباته على دينه. معرفة المؤمن أنّ عاقبة البلاء شفاءٌ وصحةٌ وسلامةٌ لم يكن ليُحصِّلها لولا وقوع البلاء.

كيف يكون الصبر

استِشعارُ وُجودِ اللهِ تعالى ومُراقبته: وفي ذلك حِرزٌ من الإفراطِ في الحزن والشِّكايةِ لغير الله، وفيهِ عُمقُ الإيمانِ بمُلكيَّةِ الله للنَّفسِ والمالِ والأهلِ والوَلد، وبأنَّهُ المُدبِّرُ والمُصرِّفُ لجميع الأمورِ والأحوالِ، والقادرُ على تغييرِ الحالِ والمآلِ، وأنَّ الكَينونةَ بيدِهِ يُقلِّبها حيثُ يشاء، فالصَّبرُ على ما أرادَ الله مَطلوبٌ، وموافقةُ مَشيئتِهِ أمرٌ مُحبَّبٌ مَرغوب، وفيهِ حقيقةُ الرِّضا وانعِكاسُ الإيمان والتَّسليم والعُبوديَّةُ الخالصةُ لله وحده.

التَّحليل الشاملُ والواضحُ لحدث الابتلاء: ذلكَ من مُتطلَّباتِ التَّخطيطِ السَّليمِ والتعرُّفِ إلى السَّببِ والمُسبِّبِ، والوقوف على أركانِ الابتلاءِ ورسائلِهِ وظروفِه ودلائِله وأحكامِه، وتشرُّب الحدثِ برسائلِهِ الرَّبَّانيَّةِ العميقةِ والإيمانِ بها والإفادة ما أمكن، وتلكَ سُنَّةُ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَحمِلُ ما يَدعمُ ذلك ويُدلِّلُ عليه، ومن ذلك مُراجعةُ أحداثِ أحد والوقوف على هزيمةِ المُسلِمينَ فيها، فلم يمر الحدثُ مرورَ الانصياعِ السَّلبيّ، بل كانَ فيهِ تحليلُ الأسبابِ والجوانبِ والمُسبِّباتِ، ثمَّ مُعالجة جوانب الضَّعف

الإيمانُ بقضاء الله وقَدره: في ذلكَ تثبيتٌ لقلوبِ الصَّالحينَ وتَسريةً عنهم، وفيهِ الثَّباتُ إذا حلَّت البلايا والمصائبُ والمِحن، وعقيدةُ الإيمان مُبرَّأةٌ من الكَسلِ والخُمولِ والشِّكايةِ والانحراف، وفيها اليقينُ بِتبدُّلِ الأحوالِ بين السَّرَّاء والضَّرَّاءِ والخيرِ والشرِّ ابتلاءً من الله لا من أحدٍ سواه، فلا نُكرانَ لدورِهِ وإرادتِه، بل استِقامةٌ على المَنهجِ السَّليمِ في التَّبعيَّةِ والإيمانِ الصَّادقِ مِصداقاً لقولِ الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)

وعندَ الشَّدائدِ يزيدُ المرءُ تعلُّقاً بربِّهِ ويتحصَّلُ له الخيرَ فيما أبدى وصَبر.

الإيمانُ بمتلازمة قوَّةِ الإنسانِ وقُصورِه: فالآدميُّ مَخلوقٌ من مَخلوقاتِ الله العاقِلة، مُنِحَ العقلَ والإدراكَ والتَّدبير، إلَّا أنَّ فهمه قاصِرٌ في استيعابِ إرادةِ الله وسُنَّتِه في الخلقِ وتَدبير الكونِ وعلاقاتِه ومُستلزماتِ العبادِ وشؤونِ حياتِهم، فيُمضي الله ما يشاءُ من أقدارٍ وظروفٍ وأسبابٍ تسوقُ الشرَّ للإنسانِ، فيظنُّهُ شراً بفهمهِ القاصر، فإذا تكشَّفت الحقائقُ وانتبَه إلى ما هو عنهُ غافلٌ، وجدَ الخيرَ والرَّحمةَ فيما أرادَ اللهُ وعَلِم، والتَّكليفُ منوطٌ بهذه المُلازَمة، فلا يُكلَّفُ الإنسان فوق طاقته، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).

توثيق الصِّلةِ بالله تعالى والانصِرافِ إليه والالتجاءِ غلى رَحمتِه: يبدأ ذلكَ بالاستِعاذة بهِ من كلِّ شيطانٍ ومُشغِل، ثمَّ الاستِرجاعُ باللَّفظِ الوارِدِ في كلامِه سُبحانه وتعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[ ولذلكَ أثرٌ كبيرٌ في الرِّضا الذي يجبُّ الغمَّ ويَدفعُه ويُمسِكُ على النَّفسِ أَمنها وثقتَها بربِّها، ومما يَنفعُ في ذلكَ تلاوةُ القرآنِ الكريمِ وتدبُّر آياتِه، والانصِرافُ إلى العبادةِ والصَّلوات، وقد كانَ الرَّسولُ الكريمُ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ إذا حَزَبه أمرٌ أو نَزَل به فزِعَ إلى الصَّلاة، والمؤمنُ إن سَلم في ذلك وعملَ اطمأنَّت نفسه وهدأ خاطره، فكانَ لأمرهِ الخيرُ كلُّه مهما تبدَّلت أحواله وتقلَّبت أوقاته، فكان أمرهُ في السَراءِ خيرٌ وفي الضَّرَّاء خير.

 

مراتب الصبر الخمسه

ذكر ابن القيم أربعة مراتب للصبر:
(إحداها: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله.
فيكون في صبره مبتغيًا وجه الله صابرًا به، متبرئًا من حوله وقوته، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها.
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا، فهو أخس المراتب وأردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان.
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، وهو مستعين متوكل على حوله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله؛ إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه، فهذا ينال مطلوبه ويظفر به، ولكن لا عاقبة له، وربما كانت عاقبته شرَّ العواقب، وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية، فإنَّ صبرهم بالله لا لله ولا في الله…
الرابع: من فيه صبر لله، لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه، فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه؛ لضعف نصيبه من إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فنصيبه من الله أقوى من نصيبه بالله، فهذا حال المؤمن الضعيف.
وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي، وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
فصابر لله وبالله: عزيز حميد، ومن ليس لله ولا بالله: مذموم مخذول، ومن هو بالله لا لله: قادر مذموم، ومن هو لله لا بالله: عاجز محمود)

ما الفرق بين الصبر والجزع

لكن  لا ينبغي الخلط بين إظهار التأثر والحزن مع الجزع وقلّة الصبر، لأن قلب الإنسان يتأثر بالحوادث المؤلمة بطبيعة الحال، ويمكن أن تعكس عينه حالة التأثر هذه وتبكي بسبب ذلك. وعليه فإنّ البكاء والحزن على فقد الأحبّة يعد أمراً طبيعياً وإنسانياً.   فالمهم هو أنّ الإنسان لا يسلك في المصيبة في خطّ الجزع والشكوى وعدم الشكر ويتكلّم بكلمات لا تنسجم مع الإيمان والعبودية لله تعالى والرضا بقضائه، وفي هذا المجال نقرأ حديثاً عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) يقول: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعا بِدَعْوَىَ الجَاهِليَّةِ».

   وقد ورد في سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) انه عندما توفي ولده إبراهيم بكى عليه بحيث جرت دموعه على خديه الشريفين فقالوا : يا رسول الله أنت تنهانا عن البكاء ولكنك تبكي لوفاة إبراهيم ؟ فقال «لَيْسَ هَذَا بُكاءً وَاِنّ هَذِهِ رَحْمَةٌ وَمَن لَم يَرحَمْ لا يُرْحَمُ ». أي هذا نوع من إظهار المحبة والرحمة الصادرة من العاطفة الإنسانية الّتي يعيشها الإنسان. ( وإن العين لتدمع وإن القلب ليخشع وإنا على فراقك محزونون يا إبراهيم )

وتحضرني بعض القصص عن أناس صبروا على ما ابتلاهم به الله تعالى لنرى كم نحن جزعين غير صابرين،

 يحكى أن رجلاً من الصالحين مر على رجل أصابه شلل نصفي والدود يتناثر من جنبيه وأعمى وأصم وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه. فتعجب الرجل ثم قال له: يا أخي ما الذي عافاك الله منه لقد رأيتُ جميع المصائب وقد تزاحمت عليك. فقال له: إليك عني يا بطال فإنه عافاني إذ أطلق لي لساناً يوحده وقلباً يعرفه وفي كل وقت يذكره.

قال الأحنف بن قيس: شكوت إلى عمي وجعاً في بطني فنهرني وقال: إذا نزل بك شيء فلا تشكه إلى مخلوق مثلك لا يقدر على دفع مثله عن نفسه, ولكن اُشكُ لمن ابتلاك به فهو قادر على أن يفرج عنك, يا ابن أخي إحدى عيني هاتين ما أُبصرُ بها من أربعين سنة وما أخبرت امرأتي بذلك ولا أحداً من أهلي.

لله درهم من صابرين, صبروا على مصائبهم واحتسبوا الأجر من عند الواحد المنان, لأنهم عرفوا فائدة الصبر وأجره العظيم عند الله, وتغلبوا على هذه المصائب بقوة ايمانهم وثقتهم بالله سبحانه وتعالى.

فأين نحن من هذا الصبر أو حتى أقل منه !! فرغم أن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى وعندنا الصحة والأهل والمال ولكننا دائمو الشكوى والتذمر، وإن أصابتنا ولو مشكلة أو مصيبة أو ابتلاء بسيط نلمس الجزع وعدم الصبر.

 ونختم وقفتنا هذه بدعاء للإمام زين العابدين يقول فيه: «اللَّهُمَّ اَجْعَلْ أَوَّلَ يَوْمِي هَذَا صَلاحاً وَأوسَطَهُ فَلاحاً وَآخِرَهُ نَجاحاً واَعُوذُ بِكَ مِنْ يَوم اَوَّلُهُ فَزَعُ وَاَوسَطَهُ جَزَعٌ وَآخِرُهُ وَجَعٌ»

 

 

 

أنواع الرضا

الرضا نوعان:

أحدهما‏:‏ الرضا بفعل ما أُمِر العبدُ به وترك ما نهي عنه‏.
‏ ويتناول ما أباحه اللّه من غير تعدٍ إلى المحظور…
وفي هذا يقول الله سبحانه:
‏{‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ‏}‏‏ .

والنوع الثاني‏:‏ الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض..

في الحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم: { وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ } أخرجه أحمد.

 

قدم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ـ صاحب الدعوة المجابة ـ إلى مكة، وكان قد كُفَّ بصره،

فجاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا..

قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟

قلت: نعم..

فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فردَّ الله عليك بصرك.

فتبسم..وقال: يا بُني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري.

( مدارج السالكين : 2 / 227 ).

 

عن رجل من بني سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إن الله ليبتلي العبد فيما أعطاه فإن رضي بما قسم له بورك له ووسّعه..

وإن لم يرضَ لم يبارك له ولم يُزد على ما كُتِبَ لهُ)

رواه أحمد والبيهقي.

السابق
فوائد الكركم
التالي
فوائد العنب

اترك تعليقاً